عرض مشاركة واحدة
قديم 18-04-2013, 09:54 AM   #[20]
مشرف منتدى نوافذ
Super Moderator
 
افتراضي

النص الثالث :

رفيق طريق
للكاتب : هبة الله محمد



جميلة هي المدينة عندما يقترب المساء..جمال قاس وحشي يستعد للانقضاض، وقلب قد من صخر كمبانيها الأسمنتية..كانت خيوط الظلام ألعنكبوتي قد وجدت طريقها إلى داخل الجراج؛ بين صفوف السيارات، ونسمات من حزن شفيف تسللت مع نسمات الهواء أو ربما.. مع الخطوات الصامتة الكئيبة لشخص قادم..
كان ثمة رجل يجلس هناك لا تعرف سبب وجوده أبدا..يحرس المكان ربما أو ينظفه أو هو موجود هنا فقط لأنه لا يوجد مكان آخر يذهب إليه.. يسلي نفسه بإغماض عينيه والاستماع إلى أصوات أقدام المارة ويحاول أن يخمن إن كان القادم رجلا أم امرأة..شابا أم عجوزا؛ الخطوات المرهقة التي تشعر بأن صاحبها يعرج في مشيته- حتى ولو لم يكن كذلك- هي لعجوز حتما.. أما الخطوات المتعجلة دائما حتى ولو لم يكن هناك ما يشغل صاحبها حقيقة؛ تلك الخطوات التي تبدو وكأنها تريد اختراق الأرض هي لشاب بالتأكيد..لكنه لم يشعر بخطوات القادم هذه المرة..خطوات خفيفة رشيقة كأن صاحبها لا يمشي على الأرض بل يطير؛ حتى صوت احتكاك الرمال بحذائه لا وقع له تقريبا..لم ينبهه سوى صوت دوران المحرك فالتفت لحظة بنظرة لا مبالية ثم عاد يغمض عينيه ليحاول النوم هذه المرة ويرى أشياء لا يستطيع أن يراها وهو مستيقظ..

خرج هو بالسيارة من هناك بحركة متهورة كاد معها أن يصطدم بأخرى ساكنة في مكانها..كان هناك ولم يكن هناك..عقله متلاش ينقب في متاهات بعيدة عن شيء ما لا يعرفه بينما تتولى أطرافه القيادة وحدها..لم يكن يعرف إلى أين ينوي أن يذهب بالضبط..فقط شعر بذلك الاختناق في صدره وأنه يريد أن يبتعد عن هنا..يريد أن يذهب خارج المدينة إلى أي مكان آخر..يتنسم بعض الهواء النقي ويبحث عن هدوء روحي يفتقده فيها..
تحكم في أعصابه حتى خرج من المدينة وعندها ترك لنفسه العنان..ضغط دواسة الوقود بقوة أشد..الأشياء تهرب في ذعر مجنون إلى الخلف بعيدا عن طريق سيارته..هذا الرجل لا يأبه لحياته ذاتها أتراه يهتم لها..القمر فحسب امتلك الشجاعة ليطارده كأنه يريد إيقافه ولكن من يستطيع إيقاف رجل مختنق الروح إلى هذا الحد مثله..بالنسبة له لم تكن هناك مشكلة؛ أليست حياته ذاتها سيارة مسرعة وعندما تحين النهاية ستنحرف عن الطريق وتنزلق إلى الهاوية..ضَغط على زر تشغيل المسجل لعل الصوت الصاخب يغطي على ضجيج أفكاره..وانطلقت الأغنية:
أنا جني في زجاجة يا حبيبي...
تعال...تعال وحررني..

آه..هذه الكلمات تصف شعوره تماما؛ انه كجني يمتلك طاقات هائلة لكنه محبوس في قمقم كبير هو العالم الذي يحس انه ضاق به الآن..ولكن من يا ترى يستطيع أن يحرره؟:
تعال...تعال وحررني..

تبا..لم تساعده الأغنية على الاسترخاء ولم توقف ضجيج أفكاره بل يبدو وكأنه ازداد..أغلق المسجل بضربة واحدة من يده وعاد يجذب أسطوانة أخرى عليها سورة مريم..هدأت روحه قليلا وتكومت دمعة رقيقة في عينه، عبر تلك الدمعة الهلامية التي ارتعشت محاولة التسلل إلى خده استطاع أن يلمح شبح شخص يحمل إطار سيارة، ويلوح بيده للسيارات العابرة..سيتوقف له..نعم لأن الرجل يحتاج مساعدته أو لأنه هو من يحتاج إليه..أي شخص يتحدث معه حتى لو لم يكن يعرفه بل من الأفضل أن يكون لا يعرفه فهذا يعطيه راحة أكثر فلن يرى الرجل ثانية ولن يرى في عينيه تلكما النظرة التي تذكره بأنه كان هشا في لحظة ما.. نعم..لمَ لا يفعل؟..
هدأ قليلا من سرعته لكنه مع ذلك لم يستطع التوقف سوى على بعد أمتار قليلة منه فتراجع بالسيارة حتى أصبح في مواجهته تماما..ضغط على زر إزاحة الزجاج وأطل من نافذة السيارة قائلا:
- "ما المشكلة هنا؟"
- "كما ترى.."
قالها الرجل رافعا يده بالإطار ثم أتجه دونما دعوة إلى المقعد المجاور..على أضواء السيارة استطاع أن يميز ملامحه وهيئته؛ وسيم إلى حد ما..شعر طويل ناعم مصفف إلى الخلف مع بعض الخصلات المتهدلة على جبينه، وقد ارتدى ملابس صيفية خفيفة لا تتفق مع لسعة البرودة التي بدأت تتسلل عبر ذرات الهواء..قال الرجل بعدما استقر في المقعد إلى جواره:
- "لقد كنت عائدا من عمل خارج القاهرة عندما فقدت زوج من الإطارات..تخيل هذا!!..تبدل واحدا لتجد الآخر لم يعد صالحا أيضا..ما فائدة السيارات الحديثة إذن ما دامت تفقد إطاراتها بتلك السهولة..لقد ظللت واقفا هنا أكثر من نصف ساعة دون أن تمر سوى سيارة واحدة وقد رفض سائقها التوقف..كان حظي حسنا جدا كما ترى..أشكرك كثيرا لأنك توقفت..آه..آسف..لقد انخرطت في الشكوى و نسيت أن أقدم لك نفسي؛ أحمد منير"
- "حاتم سالم.."
أشعرته طريقة الرجل المنطقة في الحديث بالألفة؛ كأنه صديق قديم، ووجد نفسه بلا وعي يبتسم:
- "آسف لأنني عطلتك معي..ولكن إلى أين كنت ذاهبا في الأصل؟"
شعر هو بالارتباك للحظة أمام السؤال المفاجئ..ماذا سيقول له؟..لكن الرجل يبدو لطيفا..حسنا ليقل:
- "في الحقيقة..لم أكن ذاهبا إلى مكان محدد..أعني.....أنني كنت أشعر ب...... ببعض الضيق..كنت أريد أن أسير بعيدا عن الزحام..أعني......الهواء هنا أنقى بكثير.. أنت تفهم أليس كذلك؟...."
"نعم..أستطيع أن أفهمك..أنا مثلك عندما أشعر بالاختناق أتجول بسيارتي بلا هدف..وأحيانا كذلك أحب أن أغني؛
وســرت وحـــدي شريدا محطم الخطوات
تهزني أنفاسي..تيرررا..تخيفني لفتاتي..تيرررا"
لم يستطع أن يملك نفسه من الابتسام ثانية؛ خاصة الطريقة المسرحية التي كان يحرك بها ذراعيه مع الأغنية..هذا الرجل قادر على تحويل أي مشكلة إلى مهزلة حقيقة:
- "ولكن ها هي نتيجة سيري وحيدا شريدا؛ لقد وجدتك.."
- "لقد أرسلتك السماء إذن..يبدو.......أووووووووووووووووع...............! !!!!"
ارتبكت يد حاتم على المقود، وهو يلتفت إليه..يا الهي..ما الذي حدث له؟..رآه يضع كفه على فمه..يبدو أنه سيتقيأ؟..ضغط الفرامل بسرعة؛ فاندفع جسداهما إلى الأمام..واستطاع هو على ضوء السيارة الخافت أن يرى الدم يغرق كف رفيقه وقميصه الأبيض..سمع شهقته الأخيرة ثم رأى الجسد يستكين في مقعده بلا حراك..
***
الظلام..وعواء حزين يتردد في الصحراء الموحشة..أغنية الصمت الكئيبة تأكل نغماتها في أعصابه بضراوة..والجسد الملقى بجواره يأبى الحركة..همسة فقط تدل على الحياة؛ وعندها سيرتاح..لكن الجسد ساكن سكون الطريق والصحراء وكل شيء هنا عدا نفسه المضطربة..تبا..ليته ما خرج من بيته الليلة..ليته ما جاء هنا ..ليته لم ير هذا الرجل..ليته ما توقف له..ليته.....ليته.....ليته...عض على يديه في حنق..ما الذي حدث بالضبط؟..لقد كان الرجل يتكلم بطريقة عادية ثم.................وما هذا الدم الذي يغرق ملابسه..يا لها من ليلة!!..إنها ليلة نحسه بالتأكيد..لقد كان هذا واضحا منذ بدايتها..
مال نحوه بأطراف مرتعشة؛ محاولا أن يجعل جسده يعتدل على المقعد..أما زال حيا؟..لا يعرف..لا يستطيع أن يحدد..وجهه شاحب تماما..لكن جسده ما زال دافئا..يا الهي..كيف سيتصرف؟..لم يعرف أبدا كيفية التصرف في مثل هذه الحالات؟..ألا توجد إحدى المستشفيات القريبة مثلا؟..نعم لابد من وجود واحدة..إنها تتواجد دائما..ولكن أين؟..لا يعرف..تبا..إنه لا يعرف أي شيء على الإطلاق..ربما من الأفضل أن يعود به إلى المدينة..ولكن هل سيظل حيا حتى يصل به إلى هناك..هذا إن كان ما زال حيا من الأصل..وماذا عن موقفه هو في حالة وفاة الرجل؟..سيكون هناك تحقيقا بالطبع، وأسئلة كثيرة عن وجود رجل لا يعرفه معه بالسيارة..وسيرتبك هو كالعادة.. كالعادة سيرتبك وعندها............يا له من طفل صغير أحمق..ولكن لابد وان يتصرف..حسنا سيعود.. سيعود إلى المدينة وليحدث ما يحدث..لن يخاطر أبدا بالتوغل في طريق لا يعرف إن كان سيجد فيه مساعدة أم لا..ولكن بالله ما الذي حدث له؟..لقد كان ممتلئا بالحياة فكيف تجرد منها هكذا فجأة..

أدار السيارة في الاتجاه الآخر؛ عائدا صوب المدينة..غمرت أضواء سيارته أسفلت الطريق البارد الجامد..لمَ لا تمر ولا سيارة عبر هذا الطريق؟..وكأنه لم يخلق سوى لهما؛ وكأن الأرض بأكملها أقفرت..نقل عينيه بين الجسد الهامد والظلام على الجانبين وأرتجف..إنه وحيد.. وحيد تماما..لو ينهض رفيقه ويعود كما كان..
"أفق.. بالله عليك أفق.."
لكنه يأبى الحياة من جديد.. شعر بعضلات صدره تنقبض وتنفسه يضيق، ومن بعيد لاحت له السيارة المرتكنة على جانب الطريق؛ سيارة بقايا الرجل الذي بجواره..سيارته..نعم..سيارته هي الحل..ضغط الفرامل بلا وعي ونزل..لا أحد يعرف أن هذا الرجل كان معه..ليس مضطرا للتورط في الأمر..فعلا..لمَ لا يعيد الرجل حيث كان في سيارته؟..لن يعرف أحد بهذا أبدا..تلفت حوله كأنه يخشى وجود شخص وهمي، ثم اتجه إلى الباب المجاور لرفيقه، وفتحه..أيفعلها؟..ولكن........وقف مترددا للحظات..ثم مد جذعه عبر فتحة الباب ليجذب الجسد إلى الخارج..إنه ثقيل.. ثقيل كالكارثة التي ورطه فيها..ولكن هذا الألم في صدره يشتد..الرؤية تغيم أمام عينيه..أصابعه تتراخى على الجسد و....... وسقط بجواره بلا حراك..
***
الجسد الميت ينهض من مكانه حيا من جديد؛ رهيبا؛ كأنه العنقاء تبعث من رمادها..ملامحه مشوهة.. ممسوحة..مغلفة بالدماء..
- "لم أقصد..صدقني..لم أقصد.."
يقولها هو بلا صوت ضارعا..لكن الآخر لا يهتم..يتجه نحوه..بخطوات ثابتة ثقيلة كدقات المطرقة..يلتفت هو حوله..يحاول أن يهرب..لكن قدميه مثبتتان في الأرض بقوة غير عادية..كأنهما قدما تمثال حجري..الوجه الجامد يقترب منه أكثر وأكثر..يمد يديه الملوثة بالدماء نحوه و.................................أفاق أخيرا..لكنه انتفض ثانية إذ وجد الوجه ذاته يحدق فيه؛ بابتسامة مرهقة هذه المرة!!!
- "هل أنت بخير الآن؟"
وصله الصوت بعيدا.. بعيدا.. كأنه من غور سحيق..لم يستطع أن يرد..كان يحاول أن يفهم طبيعة وجوده في هذا المكان..وكيف.. كيف يجلس هذا الرجل أمامه سليما بينما هو ممد على الفراش..أكان يحلم؟..مستحيل... أم أن هذه بقية الحلم...ولكن.....تجمد المشهد أمام عينيه للحظات..وعندما استطاع أن يحرك شفتيه أخيرا خرجت الكلمات باهتة مبعثرة؛ بلا معنى:
- "لقد...كنت.................................... .... ..................."
ابتسم الجالس أمامه ثم هز رأسه في بطء قائلا:
- "نعم..لقد كان مغشيا عليّ..لقد صار هذا يحدث لي كثيرا هذه الأيام..إن حالتي تزداد سوءا..أعلم هذا..لكنني بدأت اعتاد هذا على أية حال..لم يعد الأمر يزعجني كالسابق..لحسن الحظ لم يكن النزف شديدا هذه المرة..المهم هو هل أنت بخير الآن؟"
عبرت الكلمات حدود ذهنه المكدود؛ بالكاد استطاع أن يكون منها ما يفهمه..لذا عاد يقول في وهن:
- "ولكن......كيف؟"
- "حسنا..ما دمت مصرا على السؤال..لقد أفقت لأجدك ملقى على الأرض..كنت متعبا ومشوشا تماما..لكنني استطعت أن أخمن ما حدث لك..بحثت في جيبك عن أقراص علاجية أو ما شابه، حتى عثرت على علبة..دسست في فمك قرصا منها..ثم حملتك إلى السيارة..واتيت بك إلى هنا..لا أعرف إلى الآن كيف فعلت هذا كله..لقد كنت أترنح تقريبا..و بالكاد كنت أرى الطريق أمامي..لابد وأن الله ساعدني لإنقاذك..و......."
ثم هز كتفيه، وابتسم ابتسامته الشفافة ثانية..وللحظة شردت عيناه، وغاضت الابتسامة على وجهه ثم التفت يسأله:
- "ولكن كان وضعك غريبا..أقصد..ما الذي كنت تفعله خارج السيارة؟"
برغم كل شيء أحمر وجهه بشدة..وحرك يده بصعوبة كأنه يدفع عن نفسه شيء خفي قائلا:
- "لا شيء..لا شيء..لقد كنت أحاول إفاقتك فحسب.."
تمت بحمد الله



مشرف منتدى نوافذ غير متصل   رد مع اقتباس