عرض مشاركة واحدة
قديم 24-05-2009, 06:51 AM   #[14]
محمد الطيب يوسف
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية محمد الطيب يوسف
 
Exclamation النمل يغزو المدينة/ محمد الطيب يوسف

[frame="7 80"][align=right]

[align=center]النمل يغزو المدينة/ محمد الطيب يوسف[/align]

[align=right]
بدأ الأمر برمته يوم الأمس صباحاً عندما انتبهت إلي صفوف النمل وهي تعبر بمحاذاة الصنبور الذي كان يهرب نقاط الماء بانتظام ثم تابعتها وهي تمر بجوار حوض صباح الخير بأزهاره الحمراء الصغيرة وتستمر في نفس خط سيرها مروراً بأزهار دوار الشمس حتي أنني استطعت رؤيتها وهي تتجاوز شجرة دقن الباشا وصولاَ إلي السيسبانة فقررت أن أهتم بإبادتها بعد الانتهاء من الطبخ ونظافة البيت الداخلية .

دهشت عندما وجدتها قد تسللت إلي داخل المطبخ بنفس صفوفها الطويلة التي لا تدرك من أين تبدأ وانتشرت خلف الدولاب و حول حوض الغسيل ولم تنج منها حتى الثلاجة وهي تغزو بياضها الناصع فبدت كالنمش علي الوجه فقررت أن أبدأ بالإبادة فوراً وألا أرجئ الأمر لحين الانتهاء من الطبخ , فتحت دولاب النظافة بحثاً عن مبيد مناسب ولكني لم أجد شيئاَ يرضيني فنويت أن اشتري واحداَ حين خروجي للتبضع بعد الظهر ثم انهمكت في العمل متجاهلة انتشارها البطيء في كل مكان غير أني تفاجأت عندما وجدت أرتال منها خلف كراسي الجلوس وما أثار فزعي هو وجود ثقوب صغيرة في القماش الذي يغطي خلفية المقاعد وكنت متأكدة من أنها لم تكن موجودة صباح الأمس

خرجت مسرعة إلي السوق القريبة وعندما وصلت إلي هناك لمحت جارتي أم أحمد تسد المدخل بمؤخرتها الضخمة فدخلت في حرص حتى لا أحتك بها , حييتها بصوت خافت ودون أن أنظر اتجاهها فقد كنت أخشي ثرثرتها المملة والتفت إلي عم سعيد وأنا أساله عن مبيد جيد للنمل , بدا الأسف علي وجهه وهو يعتذر بأن كل الكميات التي كانت عنده قد نفذت ,ولم يتبق إلا الذي انتهت صلاحيته إن كنت راغبة فيه وهنا وجدت أم أحمد فرصتها وهي تدنو مني قائلة :

- إن النمل يجتاح المدينة

كنت قد اعتدت علي تضخيمها للأمور فاعتبرت هذه واحدة منها ثم غادرت المحل وأنا أودعها في عجلة ولكن عندما وصلت للبيت أدركت أنها لم تكن تبالغ كثيراً وأنا أبصر جيوش النمل تغزو البيت من كل الاتجاهات , أصابني الهلع عندما ولجت للداخل فقد تحول لون الجدار إلي الأسود القاتم , الطاولة ذات اللون البني المحروق بدت وكأني قد فرشت عليها مفرشاً أسود , طفح النمل من ماء المزهرية التي وضعت علي الطاولة ولكن ذلك لم يثن البقية وهي تحاول الوصول إلي الحافة في عناد غريب ¸ركضت إلي المطبخ في فزع كانت جحافل النمل قد اجتاحت مطبخي , شفاط الهواء كان معطلاً والمئات من النمل قد ملأ لفراغات التي فيه , جوال السكر مرمياً في الوسط والنمل يتدفق منه كالسيل , من دون وعي مني أمسكت بخرطوم المياه وبدأت حربي ضد النمل وعندما انتهيت كان بيتي قد تحول إلي بحيرة صغيرة ذات سطح أسود لامع وقد طفت فوقه العشرات من الأشياء , كرة البنق البيضاء الصغيرة كانت تتقافز علي السطح وكأنها قد جنت ,أوراق من صحيفة قديمة , فستان بنتي الأبيض بوروده الحمراء الفاقعة بدا وكأنه يطير علي سطح الماء وهو منتفخ كبالون ضخم , بيت النظارة التي يستخدمها زوجي كان يطفو وهو مفتوح وكأنه يقهقه , أفلتت مني ضحكة صغيرة وأنا أشاهد الفوضى التي صنعتها .
جلست علي الكرسي المبتل وأشعلت المرئي أمامي , تابعت الأخبار اليومية بنصف عقلي وأنا أفكر في كيفية إعادة تنظيف البيت وترتيب الفوضى التي صنعتها ولكن شد انتباهي مذيع النشرة وهو يقرأ خبراً متعلقاً بالنمل ثم ظهر المحافظ وهو يتحدث عن اجتياح النمل للمدينة مبرراَ ذلك بسبب السيول الأخيرة ولأن المدينة تقع في مكان مرتفع فقد فر إليها النمل هرباً من كوارث الطبيعة , اعتصرت ذاكرتي ولكني لم أتذكر سيول اجتاحت منطقتنا في التأريخ القريب بل ومنذ أكثر من عشرين عاماً كما أنها تقع في وادي بين جبلين فتبسمت ساخرة من تبريراته وأنا أعود لحديثه وهو يطمئن الشعب بأن الوضع تحت السيطرة وأنهم قد نظفوا الجزء الشرقي من المدينة تماماً وستتوالي حملات النظافة حتى تعود المدينة كما عهدها أهلها .

انتقلت الكاميرا إلي عمال النظافة بستراتهم الزرقاء وأقنعتهم الواقية والنظارات التي تغطي نصف الوجه فبدو لي وكأنهم رواد فضاء وليس عمال للنظافة وعندما عادت الكاميرا إلي المحافظ وهو يواصل في ثرثرته غير المجدية كانت هنالك نملة صغيرة تتنزه في زرقة سترته وكأنها تمد لسانها ساخرة من حديثه الممجوج



حاولت الاتصال بأمي عدة مرات ولكن هاتفها كان مشغولاً علي الدوام ثم أخيراً عبرصوتها المعتق الأسلاك إلي أذني ممزوجاً بالغضب وهي تشكو من النمل الذي تكدس في غرفة نومها وهو يطأ ذكرياتها بأقدامه ذات النهايات الشعرية .. أنهيت المكالمة ثم هاتفت أختي التي كانت أيضاً في أوج غضبها وحزنها والنمل قد أتلف عيد ميلاد ابنها وهو يدمر ترتيباتها التي أنفقت نهاية الأسبوع في إعدادها خاصة وأنه أعجب بطعم التورتة التي ظلت تعدها طوال ليلة أمس .

وضعت سماعة الهاتف مقررة إعادة تنظيف البيت وترتيبه علي أن ابدأ بغرفة النوم , كانت المياه قد وصلت إلي هناك رغم حرصي علي إغلاق باب الغرفة جيداً , شرعت في العمل بهمة ونشاط , وأنا غارقة في النظافة لفت انتباهي شيء غريب , ألقيت بالمكنسة من يدي وأنا أقترب في تعجب من دمية بنتي الصغيرة المرمية عند الركن في إهمال فبنتي لم تحبها أبداً بلونها البني وشعرها الغزير وفمها الذي فشل في أن يكون خرطوماً ولم يقنع بمكان الفم فتمدد إلي الخارج بطريقة كاريكاتيرية , الغريب في الأمر أن النمل قد صنع نصف دائرة حولها وكأنه ينظر إليها في ترقب دون أن يقترب منها وهي مرمية علي جانبها في إهمال , حملت آكل النمل في حرص وأصلحت من وضعه بحيث أصبح مواجهاً للنمل وأنا أراقب الموقف من كثب ..

تراجع النمل في ذعر وهو يتدافع نحو منافذ الغرفة في جنون .. غمرني إحساس بالسعادة وأنا أركض به نحو الفناء ثم وضعته في مواجهة النمل مرة أخري ولم تمض سوي دقائق معدودة إلا وكان الفناء خالياً من النمل تماماً

حملته في عناية وأنا مدركة لما سأفعله جيداَ , لففته بورق صحيفة قديمة ثم خرجت من البيت في عجلة , عند بداية الطريق لمحت أم أحمد جارتي (العزيزة ) وهي تتهادي في مشيتها ,حاولت تجاهلها وأنا أتظاهر بقراءة اللافتات من حولي ولكنها لم تمنحني الفرصة وهي تقطع علي الطريق لاهثة , وضعت اللفافة خلف ظهري وأنا أتظاهر بالبراءة بيد أنها لم تنتبه وهي تشرع في الحديث مباشرة

- ألم تسمعي بما حدث لعوض جارنا ؟؟

عقدت حاجبي متسائلة دون أن أتفوه بكلمة

أشرقت أساريرها وهي تسترسل قائلة

لقد حاول أن يستدرج النمل للخروج من بيته فحمل جوالاًمن الذرة وهو يلقي بقدر ضئيل منه كل مرة في طريقه والنمل يتبعه في صف طويل كل نملة تأخذ حبة ذرة ثم تولي مدبرة من حيث أتت وعندما وصل إلي خارج البيت كانت تتبعه نملة واحدة فأطلقوا عليه اسم عوض أبو نملة

ثم انطلقت تقهقه بصوتها الحاد الذي يشبه طنين البعوض غير أني لم أتجاوب معها ووقفت في بلاهة وكأنني انتظر باقي القصة

قطعت ضحكتها فجأة وهي تسأل في فضول

- لكن إلي أين أنت ذاهبة ؟؟

تملصت من بين براثنها قائلة

- ذاهبة لشراء بعض الأغراض الضرورية

(لابد أنني كنت أخشى من مصير عوض أبو نملة )

كان مكتب المحافظ يغص بالصحفيين ورجال الاعلام ولكنني لم ابال وأنا اقترب من طاولة مدير مكتبه ثم أدنو منه براسي قائلة
- أريد مقابلة المحافظ

- هل هناك موعد سابق

- لدي حل لمشكلة النمل

ثم اكملت العبارة بصوت خافت ولكنه واثق

- حل جذري

تراجع بمقعده للخلف عاقداً أصابعه أمام وجهه , تجاهلت الشك الذي ينبض من عينيه وأنا أتلفت حولي ثم عثرت علي تجمع من النمل في أحد الأركان ,أخرجت دمية آكل النمل في حرص من اللفافة ثم وبحركة مسرحية وضعتها أمام النمل

خفت الضجيج من حولي والكل يتابع في اهتمام ما يجري أمامهم
توقف النمل عن الحركة تماماً وهو يقف في مواجهة آكل النمل ثم بدا الانسحاب الفوضوي في هلع واضح وجن جنون الكاميرات وهي تلتقط العشرات من الصور ثم انتشرت الفرحة بين الجميع وعلا الصراخ وآخر فلول النمل تغادر الغرفة في هلع ..

خرج المحافظ من مكتبه يبدو عليه الانزعاج ولكن حمى الفرح اجتاحته مع الجمع وأجابت علي التساؤل الذي كان يطل من عينيه .

عندما عدت للبيت كنت منهكة حتى النخاع جوقة الصراخ التي ارتفعت حال دخولي للصالة أفزعتني وأنا أتفاجأ بأقاربي مجتمعين حول التلفاز يتابعون لقاءً أجرته معي إحدى القنوات , نظرت إلي زوجي في ترقب فلمحت في عينيه نظرة زهو وتقدير أكبرتهما فيه كثيراً


***


كان المحافظ قد وعد بتجهيز دمية ضخمة بإطارات لتسهيل حركتها علي أن تكون انطلاقتها من ميدان التحرير غداً صباحاً وقد شرع المهندسون والمصممون في تجهيزها علي أن ينتهوا منها تصميمها مساء اليوم .

أخبرني زوجي بإعلانات التوعية للمواطنين التي أغرقت التلفاز بكيفية جذب النمل إلي هناك عن طريق ماء السكر وفتافيت الخبز وإغلاق المنافذ جيداً بعد مغادرته حتى لا يستطيع العودة إلي البيوت مرة أخري

كان صباحاً مختلفاً وقد تحلق أفراد أسرتي حول التلفاز , لم تذهب بنتي للمدرسة كما لم يغادر زوجي للعمل , انتشرت في المدينة حمى شراء الدمية فارتفعت أسعارها إلي مبالغ خيالية , كانت القنوات الفضائية تتنقل ما بين ميدان التحرير لمتابعة آخر التجهيزات ومابين الجمهور مستطلعة آراء الكل حول مدى فعالية الخطة , قمت بعمل الخلطة المطلوبة ونشرتها حتى الباب الخارجي وتابعت النمل وهو يخرج في صفوف طويلة من مخابئ لم أكن منتبهة لها داخل بيتي ثم تأكدت من إغلاق النوافذ والأبواب جيداً وجلست أتابع مع عائلتي آخر التطورات , كانت الدمية عملاقة بطولها الذي يتجاوز العشرة أمتار وخرطومها الذي يقارب المتران , بدت لي اقرب للفيل منها لآكل النمل ولكني لم أعلق , المحافظ كان منتشياً والملايين من النمل يتدفق عبر الشوارع الخالية في اتجاه الميدان , سيل من النمل الأسود كان يفترش ساحات المدينة الفارغة ويتحرك بعقل واحد من شتي الاتجاهات ويقترب رويداً رويداً من الميدان مشكلاً دائرة واسعة القطر حوله , المهندس المختص كان يستعرض الدمية بزهو واضح والتقنيات التي تمت إضافتها لها مثل الصوت الذي كان حسب رأيي الشخصي مرعباً للنا نحن ولكني لم أدرك حجم أثره علي النمل بعد .

ثبتت الكاميرات حول الدمية من عدة زوايا لضمان عملية البث الدقيق ثم غادر الكل ووقفت وحدها كهضبة صغيرة عند المنتصف في انتظار الجيوش الجرارة.

بدأت بوادر النمل في الظهور حول الميدان من كل الاتجاهات والدائرة تضيق حول الدمية التي بدأت في إصدار أصواتها الغريبة , عند ما اقترب النمل بدرجة معينة توقف تماماً وهو يحيط بها إحاطة السور بالمعصم , كان الكل يترقب في قلق , تراجع النمل بسرعة حتى اتسعت الدائرة من جديد , عمت صيحات الفرح في فضاء المدينة , تحركت الدمية عدة أمتار للأمام ثم للخلف مستخدمة إطاراتها المطاطية , فتراجع النمل تبعاً لذلك من دون انتظام ولكنه لم يغادر الميدان بعد .

لوهلة كان المشهد يبدو جامداً والنمل يحيط بالدمية ثم وفي لحظة واحدة بدا الهجوم , تدفق سيل النمل من كل الجهات نحوها ثم شرع في الصعود علي جسدها مغطياً إياها من كل الجهات , عبر من أذن وخرج من الأخرى , ولج إلي جوفها من كل الجهات , اهتزت الدمية قليلاً وهي تخرج أصواتها التي كانت تبدو فزعة أكثر من كونها مفزعة ثم تهاوت كجبل ضخم بدوي هائل إلي الأرض

واشتعلت الحرب من جديد[/align]
تمت
[/align][/frame]



التعديل الأخير تم بواسطة الفاتح ; 24-05-2009 الساعة 07:49 AM.
محمد الطيب يوسف غير متصل   رد مع اقتباس