إلى أحمد شامي : لا خِلصتْ حكاوينا ولا لقينا البِداوينا
إلى أحمد شامي : لا خِلصَتْ حكاوينا ولا لقينا البِداوينا !
هكذا كتب الشاعر : التجاني حاج موسى منذ ذلك الزمان ..
ذكرتك اليوم .. يا سيد الرفقة الحانية . قلت لنفسي :
ـ لقد كان رحيلك يا ( أحمد شامي ) لهباً وجمراً لا ينطفئ ،
يا سيد الراحلين إلى الملكوت العالي ، يا بهي السُطوع .
اثنان وعشرون عاماً مضت على سماعي الأغنية المُفضلة لديك
( عِز الليل ) . لن تنتهي سيرتك الراحلة معي حيثما حللت ،
ولا استطاب المجلس بدونك صديقاً بطَعم العُمر الجميل ،
إلا و ينكسِر الفرح في رغوة تألقه ونفتقدك .
لن تُنسيني السنوات.. ولا عقدين والثالث في الطريق أنني وحيد بدونك .
مُنكسر السيف أنا ، و الحرب لا تعرِف نُبل الفوارِس .
على مقوّد السيارة مساء ذات يوم كنتُ وحدي .
بيدي دفعت شريط الكاسيت على مجراهُ المُخصص ،
وبدأت آلة التسجيل في الغناء و بعثرة الذكريات
والطريق رفيقٌ يتلوى :
ساعة النسمة تَرتاح ..على هَدب الدغش وتنوم
أنا مساهر ..
لو نـزعت كل ألقاب الدُنيا عن الشاعر التجاني حاج موسى ،
وأقلته من منصبه الرفيع في إدارة الضرائب أو لجان النصوص
أو برامج التلفزة ، فلن تنـزع تلك المَلَكة الكونية التي مَكنته
أن يُسرج خيله ويُسابق عواصف وجداننا ،
بحوافر شتتت الشرر وألهبت الذاكرة الدفينة منذ قرون سحيقة .
منذ اثنين وعشرين عاماً .. كنتُ على يمينك في سيارة صالون رُصاصية اللون .
ذات شريط التسجيل وصوت الرائع ( النور الجيلاني )
يصدح ويتغنى بقصيدة : ( عزّ الليل ) .
اليوم وحدي بدونك ، أيها الحاضر في جسدي روحاً .
الصوت الغنائي يرتقي بصليله عتبات الوجدان البهي .
تآلفت الكلمة الصادقة الدافئة ، مع صبر النحَّات على التكوين :
أنا والليل .. ومُرّ جَفاك مُساهرين نَحكي للأفلاكْ ..
لا خلصت حكاوينا .. ولا لقينا البِداوينا
اغرورقت البلورتين التي بهما أنظُر .
بدأ الطريق متكسراً من أمام بلور الأعيُن الدامعة .
اهتز الجسد مما به ، تكثف العُمر في خاطرة . سألت نفسي :
ـ من يا تُرى رتب هذه البُرهة في مَجرى زماني التَعِس ؟
من يا تُرى أعاد الأغنية من صَدفة تاريخها القديم
لتحبس أنفاسي في الطريق المُمهد الذي أسيره من مدينة لأخرى
تبعد عن بعضها أكثر من مائتي فرسخاً ، وبلا رفيق ؟.
اختلطت الأوراق .
هجرت الدُنيا بزخمها فصعدتْ إليَّ روحك الحُلوة يا أحمد .
شمسُك بين الأضلع دافئة كأن غيبتك الكُبرى قولَ خُرافة .
الساكس يُلاعِب الجيتار ويحاوره . يأتلفان ثم يصطرعان ،
يفترقان ويلتقيان ، وأنا المُعذب أعتصر الفؤاد الذي يدمي .
نعم : سنين مرَّت .. بَرَاكْ عارف وبَي أدرى ..
وجُرحَك يا غرام الروح لا طاب لا بِدُور يبرى !
تأكدت هزيمتي ، وخُسارتي الفادِحة عند كل منعطف
على أطراف الهِضاب العالية . لا الدمع يُشتت الذكرى ،
ولا الأطياف الحالِمة تتبعني كلما توسدت سيرتك ،
ولا هي قادرة على نـزع فرو البشرة التي شهدت نُمونا الفكري
صفحة إِثر أخرى .
كتبنا معاً ألواح الجسارة المُنضَدَة كنحتٍ في رُخام ،
ليس منه فكاك . وجهك المُشِع ،
ونظرتك الحانية من خلف النظارة الطبية السميكة ،
تقول إن العُمر المُذهب بالعافية والنضار يُبشِر بالفواجِع والرحيل ! .
وتصفحت العُمر ورقة إِثر أخرى .. بأغنية تكاد تُزهق الروح :
ولو حاولتَ تتذكر ..
تعيد الماضي من أول .
تَلقَى الزمن غير مَلامِحنَا
ونِحنَ بِقينَا ما نِحنَ
عزيزنا ..أحمد .. يا أيها الصديق في البَهو السرمدي :
ألف سلام عليك .
لقد رفَّعك العُلو الماكِر إلى السماوات الباسِقة ذات يوم وحرمنا رؤيتك
مرة أخرى . سحابة لا لون لها ولا رائحة ، أخذتك عنَّا عُنوَة .
لو إنتَ الزمن نَسَّاكْ ..
أنا مَا بَنسَى ..
عبد الله الشقليني
20/01/2006 م
|