الحبيبة (بت البلد) في أشعار سفيان جنو ..
وسفيان جنو الموغلُ في السودنة اللفظية ، تتخيرُ نقطة إلهامه دارج الألفاظ والأوصاف وتبدأ بها مستمرةً الى حين اكتمالِ بدور النصوص ليظهرَ ذلك في مُعظم مستهلات قصائده ، فيستحيل النص الى ذلك السهل الممتنع المفهوم القريب المستعصي الذي يفاجئك بين الحين والآخر بمحتوياته التي وبالرغم من قربها تكون أبعد من أبعد التوقعات التي يهيئها خيال القارئ .
كتب سفيان جنو عن الوطن والأصدقاء والحبيبة بمباشرة فاضحة لم يمتهن فيها الإخفاء و الستر او اللحن والتواري ، فكتب كثيرا عن الوطن ثائرا :
لو حتى ماح تقوم
الا القيامة تقوم ،
ح نظل نغنيلك
تشرق شموس ليلك :
(حرية ياخرطوم) ..
الثورة وعد الحق
والحق مع المظلوم
يمهل ولا يهمل
درس الإله مفهوم
والدرس واضح شوف
ماتمشي هناك لو شفت غناك مرهون الخوف
ماتجيني هنا لو أي غنا بنقال مكتوف ..
ثم يعالج بذات الوضوح المباشر الفاضح جميع القضايا التي يتطرق اليها ليكتب الشعر زاجاً بالإستفهامات في سلاسة ويسر :
وكلو عاااادي
وعاااادي بحصل في بلادي
عاديي أنصار سُنة يكتُل
صوفي شان مولد نبينا
وعادي جداً نحنه نسكُت
وصوت حقوقونا بنادي فينا
عادي تتهجّر مدينة
ويبنو سد شان يبقى رد
ونحن ردنا يبكي فينا ..
وكتب عن الأصدقاء بذات الإنفعال ، فهو الذي لاينتظر جني إلهامه كثيرا فتخرج قصائده على عجلها في كامل أناقتها ، فيسمع الصم بعد وفاة حميد قائلا :
حميد رحل ... مات يا وطن
وكان عمرو عايش شان تعيش ..
حميد حبيب كل الغُبش
حميد إذا سأل الطُرش ...
سامعني صاح .. ؟
قالولو صاح ...ما عد تغُش
مايميز سفيان جنو أنه يكتب الشعر من وحي الأُنس من حوله بلغة الشارع البسيط دون تكلف او تعقيد و دون البحث عنوة عن عميق الكلام ومعقد العبارات . ليخاطب من يعنيهم تماما بأشعاره لتصل لهم جارية مجرى الهم كما كان واضحا في رائعته المقدسة لدى الكثيرين مكاتب حلم عاطم :
لسة الدنيا بخير يا أصلي وماكـَ مُزيّف
شان تتكيّف
مع كُلِ مواسم بيعة الروح
لِسة الدنيا بخير يا خي
والأصلية ما كملت
ولا إنقطع النشيد في لحنك الزمن المُعافى
ليقول :
حر متمدد في مساحاتك
بريم شعرك ونضاراتك
ياها حياتك ياها حياتك ..
وبين كل هذا وذاك ينقلك سفيان جنو في عوالم الشعر والكتابة وبحوره بفلوكة الخشب البسيطة يمسك لجامها مراكبي سوداني الملامح طيني الشلوخ نيلي الملابس فلا تنفك تجابد أمواج الروعة ذائقتك الشعرية بفكيها الخيال واللحن الحسن ..
الحبيبة في أشعار سفيان جنو هى تلك الفتاة السودانية البسيطة ، التي وصفها قبله الواصفون وأحبها المحبون من عامة السودانيين وخاصتهم في يوم من الايام .. ونحن إذ نقرأ هذه التقليدية في حبيبة سفيان جنو لا ينسينا الشعر أن معظم الشعراء من جيله فتحوا ابواب خيالهم وطموحهم ليصنعوا من احلامهم حبيبة بمواصفات تلائم تقدميتهم وتطور العصر ليرسمها التشكيليون ويصورها المصورون جميلةً بحداثتها وأنيقةً بتقدميتها . فيما يظل سفيان جنو يرسم بالكلمات تلك الفتاة التي لاتختلف عن أية نخلة من نخيل بلادي في تلك العصور :
بت بالنية
سودانية
وفي تمام الاعتدال
بت بت حلال ..
خلوقها من معدن نضيف
عزولها من طين اي زيف
خلقوها معلم للجمال لا بُد قصادو الروح تقيف
في زحمة المُدن التصاوير
والباهاريج
جواها ريف
تتخيلها لابسة توب وسفنجة خدرة
ومُتمشطة السودان قفل
..
ومطالب أشعار جنو للحبيبة وأوصافها لم تكن بتلك الخيالية المفرطة التي انتشرت مؤخرا في العديد من الكتابات ، فقد أراد الشاعر ان يبرز صفات الأنثى السودانية العادية التي تمثل الحبيبة والأم والأخت في قالب القلب المحب والباحث عن تلك الأنثى :
بيناتي ما بيني وأنا
يا بت ملامحك ذينا
ياها الهوية السودنة
ما نحن دايماً كلنا
إن كان هناك
أو كان هنا
سودانا جاري في دمنا
في الملامح
وفي المطامح
وفي الحبيبة
وفي الغُنا ..
وبتلك المباشرة في الحلم الحبيبة يزداد التوب السوداني وضوحا فيها نحو عزة وأخواتها المتمدد وجودهن في بقاع الوطن بقاسمهن المشترك الأعظم ويخرج مافي الخلفية غير واضحا في الصورة :
خليك معاي نعم البنية
كوني للدُخري السند
بت الأصول
ترباية الأهل الكرام
ترباية النيل بت البلد ..
ليعدد بين الفينة والأخرى ماللحبيبة ومالقلبه وحلمه معاً ، فيتعمق واصفاً لها بتلك الصفات التي طالما افتخرت بها امة التوب رجلا وأنثى ليخبر ان تلك التي يحلم هى تلك التي كانت ولازالت بتلك الهيئة والخلق :
مُتواضعة ما مُتعجرفة
بسيطة ما مُتكلفة
صدق الكلام باين عليها
ما بجيك شك وتحَلِفة
تِنشكة بين مليون نفر
أين المفر من تعرفها ..
والخيال في أشعار سفيان جنو بأضلعه الثلاثة وإن كان غالبه (الإنبثاقي) الذي يخرج لحظيا من باب الإلهام نفسه ، الا انه يلاحظ فيه كثيرا الخيال (الإنعكاسي) الذي تظهر عليه صورة البيئة التي تحيط بالشاعر وتلبس الحروف طبيعتها . أما الخيال الإسترجاعي نحو ذاكرته الشعرية فقليل التواجد بين قصيدة وأخرى او حبيبة وأخرى بصورة أكثر تحديدا :
غنيتك بيك
مرق النغم وهج الغنا
القلناه في زمن الشتات
عشم الملم
حيابك العشق اللي قبلك
فيني مات
لاتشيلي هم
يا قبلتي في كل الجهات
لبلب
في الخط في كم؟
انا دير اشد
واركب اجيك
راحه من كل الوجع
بسمة عز الالم ..
ثم يقول :
وانا زول عنيد
خليك عنيده
ريديني في الزمن التشابه
ريده مختلفة وفريدة
ريدة البت الحلم
الما سمعتها من روادي
ولا قريتها من الجريدة
ولا انتظرتها عبر شاشة
من الفضاءات البعيدة
بتي الحلم راااااااكزة وشديده ..
والموسيقى في شعر سفيان جنو ، بوزن جرسها وترتيب الإيقاع فيها تعطي وصف الحبيبة بعداً ثانيا عندما تتمايل على الورق ، فلا يجتهد ذهن القارئ كثيرا ليضيف لها بعدا واحدا فقط مكتملة في خياله فتاة كاملة النموء والوله :
سراب الاغاني البدونها شتُر
حلم في حياتي
بزولةً بتسُر
ببسمة بتقابلك
تسب البصُر
وقدُر
قدُر يا عين قدُر
قدُر يا عين واحلا اتنين انا
وهيّ
وافي ليها الوافية ليّ
حبيبة الكل الكلها ليّ
فياضه محبة وحنية ..
أخيراً ربما لم يكن الحديث أعلاه ممنهجا وفق نهج نقدي واضح او وصفي لغوي أياً كانت التسمية ، لكن تلك الحبيبة التي في تلك الكلمات كان لابد عند مرورها على أن تترك في قلبي رائحة كركارها وآثار توبها حين لامس عيني وأصوات السفنجة التي تُقبّل الكعب فيهيم السمع في أحلامي ..
|