[frame="1 80"][align=justify]الجدارية
قصة قصيرة
انتابه إحساس غريب في تلك اللحظة، وهو جالس في ذلك الركن المحبب إليه في غرفته التي كانت تمتد أمامه، متمرده، بجدرانها المعتقة التي كانت تحتضن السكون, وتمنحه الخدر اللذيذ. وبرائحتها المكتومة المتراكمة على حافة الزمن. وسقفها الذي يحمل تلك التشققات التي دائما ما كان يرسم بخياله منها صورا وأشكالا يعيش وسطها, ويحكي لها ويحاورها بكل ود ولطافة وندية.
كم من الحكايات سطر حروفها ورتبها ثم أطلقها وتطايرت مع دخان السيجارة، وارتفعت نحو السقف ومع حركة المروحة الدائرية اللامتناهية, كانت الحروف, والكلمات تدور وتتلاطم وتتلاقح وتختفي وتظهر وترتفع وتنخفض، وتغازل الحروف النائمة في كتبه المتراصة في ركن الغرفة، وعلى السرير وتحته وفوق النافذة وتلك المبعثرة وسط الغرفة.
وفي عملية الاسترجاع التي اختلط بها المحسوس بالا محسوس، وخياله بوعيه كانت الكلمات تتساقط عليه من السقف كأنه في نقاش صاخب يقف فيه عند فكرته وما يعتقده ويدافع عنه بكل قوة وحدة. وبالرغم من ذلك كان يقبل الأخر بآرائه وأفكاره. ويستفيد من كل لحظة يعيشها في الخارج مع اصدقائة وأعدائه، وفي غرفته مع كتبه وخيالاته.
جال بنظره على الغرفة فكر في إعادة ترتيبها، وتنظيمها فالكتب مبعثرة في كل مكان والجدران احتشدت فيها زحمة الألوان الطبيعية بفعل عوامل التعرية، وخلطت عبقرية الزمان والمكان في عملية فنية راقية. وتغير لونها الأبيض إلى عدة ألوان متشابكة ومتعانقة، مشكلة أمامه لوحة جداريه بزواياها الأربعة. الشي الذي جعله يفكر بان يفتتح بها معرض للجداريات يعرض فيها لوحاته الكونية، بعد أن يوقع اسمه تحت كل لوحة يتخيلها أمامه، محددا لكل لوحة إطارها وبعدها الحقيقي بدلا عن تلك الأبعاد المتزاحمة في عقله الباطن. ويشرح لزواره فكرة ومعنى كل لوحة، يحكي لهم عن حياته وعن تجاربه ومعاركه وأمنياته.
والسقف ممتد إلى الأسفل كان ينظر إليه من خلف التشققات، التي تراكمت عليه بعامل الزمن، كان ينظر إليه بشفقة وبمودة، وزهو وفرحة وحب، إحساس مختلط لكل منهما تجاه الأخر.
لابد من ترتيب الغرفة ونظافتها فهو بالرغم من كسله الشديد، كان لا يحب الرتابة والحياة الدائرية المملة، يعشق التجديد. لكنه داخل الغرفة كان يستكين إلى ذلك الخدر اللذيذ المنبعث من لوحاته الجدارية الممتدة أمامه من الجهات الأربعة. كان دخان السيجارة يمتد أمامه ويرتفع وينخفض، مشكلا بعد معينا حسب قوة النفس الساحب والدافع لها منه، كان الدخان يندفع ويخرج من فمه ومن فتحتي الأنف ويملا كل أركان الغرفة بنسيجه العذب. ورائحته المخدرة لغير المدخنين. مشكلا مع انكسار الضوء المنعكس من تلك الفتحات التي على النافذة وتلك الثقوب الدقيقة من على السقف. خطوطا مستقيمة متشابكة في اغلب الأحيان ومتوازية في مرات قليلة، وهو جالس في مكانه كان يتخيل حياته وسط تلك الخطوط المتشابكة التي صنعها بنفسه من دخان السيجارة المندفع من جوفه. وكلما حاول الإفلات من هذه الشبكة يلسعه احد الخطوط ويعيده إلى نقطة التشابك في الوسط، وهذا الإحساس ظل يلازمه لفترة طويلة، وربما اختياره لهذا الركن من الغرفة كان بدافع من ذلك الإحساس الخفي تجاه انعكاسات الضوء المتشابكة ومحاولة للهرب منه. كان يري في تلك الخطوط المستقيمة المتوازنة لانعكاسات الضوء قمة التفاهم والتقارب الوجداني لعشيقين يسيران وأيديهما متشابكة في الوسط ومشكلة لهم الخطوط المتوازية على الجانبين جدار حماية من زحمة تقاطع الخطوط الأخرى وتشابكها.
-انتهت-[/align][/frame]
التعديل الأخير تم بواسطة علي حاج علي ; 09-09-2009 الساعة 02:41 PM.
|