قُصَاصَات
( 1 )
رَقِبتُ ذيله يمخر فوقي السموات ..
قلتُ : و جعلناكِ رجيماً للشياطين .. جعلناك رجيما ..
عدتُ أوسوسُ لي : ماذا لو تراصت الشياطين و الجن و استرقوا حديث السماء ؟ .. ما ضرّ ؟
إرتَدّتْ إليّ الآية : ( قل أوحِيَ إليّ انّه استمعَ نفرٌ مِن الجِنّ فقالوا إنّا سمعنا قرآناً عجبا * يُهدي إلى الرُشدِ فآمنّا بِهِ ) .
تمنيتُ على المُنى أن أستمع عجبا .. حتى رثيتُ لخيبة المسترقين .. حتى رثيتُ لنأي السماء .
( 2 )
صباح الخير يا جسدي ..
يوم آخر تسترني فيه .. !!
كم أنني عورة .
( 3 )
في المسافة بين الحي و المدرسة تلامستُ و زندها .. و أمعنتُ استزادةً في التلامسِ حتى أوجَعَتني روحي .
نزلتُ من الحافلة أحملُ ذنبيَ الجميل .. بينما شيعتني هي ببصرٍ كالحديد ..
بقيتُ و طيفها نتلامس حتى المحاضرة السابعة , و الظهيرة صهدٌ صيفي .. و معلم الفرنسية يرمقني مبرطما : vous écoute sont pour moi ؟
( 4 )
في مكة نَهْنَهتُ من خشيةٍ و أنا أدخل الحرم و تدخلني الرهبة - لمَرّتيَ الاولى – .. فدَمِعتُ .
في ذات المساء في عرفات و حين سكن رهق القوم الحجيج .. تمددتُ من تعبٍ , تفكرتُ وهواء الليلِ ناعمٍ طَلِي :
لو أنني واجدٌ كأساً دِهاقاً في هذا الصمت النسيم .. !!
تلمظتُ طعم الشرابَ في حلقيَ العطِش ..
و كانت معلقةٌ أعيني في ظلمة الليلة و سماء الله الصيفية .
بقيت مراوحاً عُتهيَ حتى استغفرت إسرافي على نفسي و .. الدنيا نسكٌ و أمان .
تفكرتُ فتعبتُ .. فنمتُ .
( 5 )
ظل يرددها في صلواتِه الجَهر ..
: ( صلاة الذين نعم نعمتُ عليهم ) ..
قلتُ – و أنا الولدُ الدارس للمدارس - :
يا جَدي .. هي ( صِراط الذين أنعمتَ عليهم ) .. رددتُها عليه مُحرَجاً من " شوية " العلم الذي اجترأتُ به على سيدي جَدي ..
فرددها هو مِن خلفي مزهواً بـ ( الولد الفالح ) الذي أخرجه الله من صلبه : " صراط الذين أنعمتَ عليهم " .
في أرقي الفجري سمعته يتلوها بذاتِ لسانه القديم .. ذاته : صلاة الذين نعم نعمت عليهم ..
فنمتُ ساخراً مني .
مات جدي .. و رجع إلى ربه داخلاً في عباده : ( نفسٌ مطمئنة ) ..
و بقيتُ معلقٌ من بعده أجاهد إصلاح العالم بـ : " صراط الذين أنعمت عليهم " .
- جسدي مُغطيٍ عورتي - حتّامَ ؟؟
( 6 )
أول ما رأيت من بحارٍ كان بحرُ " سواكن " ..
( قالوا اسمها : سبعة جِن .. حُرّفت و حُرِفَتْ حتى عَجُمَتْ فآلت إلى سباجن .. سواكن ) ..
أظنني كنت ثملاً رؤيتئذٍ .. و لأسبوعين من بعدها ظللتُ و البحر متلازمين ..
تعاطيتُ محاراً مخاطياً مع الخواجية التي تحب " البنقو " و البحر , و تسكن جُحراً مبتنىً من أحجارٍ مُرجانية و قواقع .. و طفلتها السمراء " لوتس " .
قالت أن والد الطفلة الخُلاسية حبشيٌ مجنون .. ركب البحرُ ذاتَ نشوةٍ .. و لم يعد .
فأول ما رأيت من بحارٍ كان بحر" سواكن " ..
كبيرٌ كان و أزرقَ أزرقْ ..
شتاءٌ و بحرٌ .. و " سواكن " .
ثم أن الليل في بحرِ" سواكن " عامرٌ بالإرتطامات ..
البحر يرتطم بأحجار الشاطيء .. يرتطمُ الموجُ بالبحرِ ..
ترتطم المراكب و " السنابيك " العتيقة بعضها ببعض , و بالموجات ..
ترتطم رائحة العفونة البحرية بخياشيم الدنيا ..
الجن السبعة يرتطمون بالحكايا ..
أرتطم أنا برأسي .. و أرسم كمن يستبق شيئا ..
بحرٌ .. و النمش على صدر الخواجية المسطولة.. بعيناها المنكستان كشراعٍ طُوِيَ .
رأيتُ كثير بحارٍ من بعد .. لكنها بلا نمشٍ و لا قواقع مخاطية و لا " لوتس " ..
فالبحرُ سواكن .
( 7 )
رجع من أوروبا مُحنَقاً .. و أشيباً ..
ثم قضىَ مُلازماً لأمي وقته كله .. يصمتُ هو .. و تحكي هي .
غادر بعد سنين - لا أعرف إلى أين -
صَمَتَتْ أمي مُنذها ..
بقِيََتْ حانقةً .. و ابيَضّ شعرها كثيرا .
بعد موتها , تلقينا بطاقة ملونة من " أثينا " ..
شجرة عيد الميلاد على وجه البطاقة الملون .. و على ظهرها الأبيض كَتب :
( أرض الله واسعة يُمّه .. أنا بخير .. أدعي لي , وابقي طيبة ) .
( 8 )
رسمتها في حدائق النيل , و العامُ صِفرُ اليدين ..
جفف السلطانُ الحاكم منابع السماء و الأرض عامئذٍ , فتشارك الناس و النمل القوت ..
عامٌ رمادة ..
رسمتها بالقلم الرصاصي H8 : ( شحّاذةٌ متسولةٌ ) ..
بشلاّخٍ عريضٍ على صفحتي وجهها الكتاب المقدس .
سنين بعدها توالت .. و كثير مياهٍ عَبَرت من تحت الجسر ..
لكن عام الرمادة بقىَ و استطالَ عقوداً .
- في البلاد الأجنبية .. كنتُ أنا الأجنبي -
أخرجتُ رسمي لها من بين أرتال ورقٍ و أحزانٍ .. و وطن ..
لقيتُها شحاذتي تخرج وجهها الكتاب المقدس بورتريهاً .. بلا شلوخ ..!!
بينما .. كنتُ مفصوداً من الأفق حتى الجدار .
( 9 )
تضحكينَ كثيراً ..
فتُمطِرْ .
( 10 )
في جيبته الصغيرة .. وجدتها .
في جيبة الساعة في جلبابه " الأنصاري " ..
وجدتها .. عشرة جنيهات مطوياتٍ بعناية ..
( أتعهد بأن أدفع عند الطلب لحامل هذا السند مبلغ عشرة جنيهات سودانية )
التوقيع : السيد الفيل .. محافظ البنك المركزي .
راتبه - أبي - كان ثماني عشرة جنيهاتٍ : عاملاً ..
و ستة جنيهاتٍ و هو " خفيرٌ " شيخٌ فوق السبعين ..
مات مطوية جنيهاته العشرة في جيبة جلبابه الأنصاري .. و ظلت هناك لعقود ثلاث .
طويتها معيدها لسيرتها الأولى .. معها طويتُ تعهد السيد الفيل المحافظ المركزي .. و وزير ماليته مأمون بحيري .
تأملتُ أوجه ثلاثتنا في المرآة .. ثم بصقتُ .
( 11 )
" جوليانا " الأسترالية الحسناء سكرتيرة المدير ..
رأيتُ جانباً من فخذها البض .. من تحت طاولة مكتبها .
تمَلمَلَتْ هي من وطء أعيني .. فطَلَبتْ لي كوبا من الكابوتشينو ..
فتَمَلمَلتُ أنا واضعاً أوراقي على حِجريَ .. و بِضع لذةٍ خبيثة ..
قلتُ : لا بأس .. سأنتظره .
في المساء حكتْ جوليانا عن كل شيء ..
- وحدنا .. و بيننا أقداحٍ و دخانٍ و كلام -
في الصباح التالي , و في مكتب المدير .. لم أرَ فخذها البض !
رأيتُ ابتسامتها و وجهها الإنسان ..
و .. قابلتُ المدير .
|