أضغاث السانسميليا-3- ابطال الخرافة الحديثة
أضغاث السانسميليا-3-
أبطال الخرافة الحديثة
أتطلع الى عينيه ابى، كان يمشى الى جانبى، صغيرا يخوض فى سنواته الخمس وجلا، الاعبه خشية من بأس غضبه ، كان يدندن بالأهازيج طربا بدخوله الصف الأول ، ذهبنا جميعا الى المدرسة برفقته المرحة الشقية ، و فى طريقنا مررنا على الحياة تنفض عن ثقل اليأس اجفانها ، مررنا بالشرطى يرفل فى بزته الأنيقة ،مستندا بثقة على جانب سيارته ذات الخطوط البيضاء و الزرقاء على صفحتيها ، و الأضواء المنصوبة على سقفها تتناوب الوهج..ازرق..احمر ...بلا انقطاع ، تنبىء بالحذر ، يوجه السيارات من موقعه الى طريق دائرى يطوق المدرسة مثل حزام منطبق على بطن ممتلئة ، و الصغار يحملون حقائبهم على ظهورهم مزينة بصور ابطال الخرافة الحديثة.
اصطف المدرسون و طاقم العاملين بالمدرسة ، يلوحون بالبالونات و الأمل ، ينثرون ابتسامات الترحيب كيفما اتفق ، بفرح متقن الصياغة ، قدموا لنا القهوة المجانية و الفطائر ، و الناس زمر...زمر ، فى ملابسهم النظيفة ، نشطون ، يبتدرونك عنوة بتحية الصباح مثل الات مبرمجة ، و انت مجهد ، قلق، فى رحاب حضرة الناظر ، و طابور الصباح ، و مشهد سياط الحناء ، تجب الفرح و انطلاقة الصبا ، حال ان تقع عيناك عليها ، ( باردة مثل كلمة القضاء لا تنم عن غضب) ، وراءها يقف سادن سعى لجلبها من حوش مأمور السكة حديد ، يخبىء دفتر العيادة خلف ظهره . كم تمنينا المرض فى يوم امتحان الحساب ، و موت ذوى القربى يمنحك ثلاثة ايام للراحة دون مساءلة و بعض عطف فوق ذلك ، قتل ابن خالى فى سبيل ذلك كل اهلنا و ساح فى طرقات المدينة هزجا ، حتى اتى الدور على امى ..فقتلها ، و بعد ان اتم عدته قفل راجعا الى حوش المدرسة ، يرزح تحت ثقل اسى وهمى ، سأله ابو الفصل ، و كان يعرف اهلنا جميعا مدفوعا بخوف من اللوم ( الماتت دى منى من عماتك؟؟) فذكر اسم امى ، قال ابو الفصل ( عمتك دى كان ما اخاف الكضب ..الصباح ده شفتها شايلا قفتا و ماشة على سوق الخدار..ياربى قامت بعاتية؟؟؟).. فأسقط فى يده...
ضرب ضربا مبرحا ، سعدنا لأذلاله ، أعلمت المدرسة امى و ابيه بالأمر ، فكادا ان يدقان عنقه ، لم يعد للمدرسة بعد ذلك ابدا ، مثل به امامنا و ذكرت المنطقة الصناعية و نفارة البوليس مرارا ، ثم سكنت العاصفة تماما مثلما بدأت ، و لم يعر احد الأمر أهتماما بعد ذلك ، حتى اصاب ثراء فى مقبل ايامه ، فضحك القوم مليا و هزوا رؤوسهم اعجابا بشقوته و كادت امى ان تزوجه احدى بناتها!!! سار ابى حذاء الحوائط التى تشى هيئتها الراسخة بالأمن و الطمأنينة ، الماء البارد النظيف فى ردهاتها يصعد من نوافير لامعة ، و حين التقت عينى بعينه ، احسست بعجزه عن النطق ، و ادركت قوله ( عمتى وين يا ولد) (دايرين تورثونى و انا حى يا أولاد الكلب؟؟) ..
كان يأخذنا الى جنينة ( كعكاتى) قبالة مبنى المديرية ، نشهد الأستعراض العسكرى فى اعياد الأستقلال ، الأستعراض الذى ما انقطع حى الان ،و فوق اشجار اللبخ ، علقت الميكرفونات تصدح ( عربا نحن حملناها و نوبة) ، اسمينا النشيد ( هاهاهاهاها) . بائع الترمس كان يتجول بين الناس و مقاعد الحديد ، يزين الترمس بقطع من الثلج ، يحمل كل ذلك داخل جردل ازرق انيق ، مؤطر الحافة بزيق ابيض رفيع و على فمه غطاء من قماش شفاف يزيحه الى الجانب متحديا شغف الأطفال و الكبار الذين اصابهم سأم الأنتظار لخطبة الحاكم ، أشتهيت فى سرى ذلك الترمس ، و حين اشتد على الوحى جاهرت بدعوتى فأشتهيت العصير الأحمر و الليمون البارد ، تمنع ابى عن الشراء بحزم و اسى شع من عينيه ، و ادعى بأن هذه الاشياء تصيبك بمرض فى الأمعاء ، لم اكن قد التقيت بعد بهيئة الفقر ، و حينما تبينت ملامحه ذات يوم فى ظهيرة عمرى تذكرت اين رأيته أول مرة فى حدائق الأستقلال ، و هذا الصباح شهدت ابى و هو ينتعل حذاءه الرياضى ( نايكى) ، و يترجل بثقة عن سيارة اقودها لحمله الى المدرسة ، كان يحمل اوراق عملة عليها صورة ( بنيامين فرانكلين) ووجوه رئاسية عديدة ، داخل غرفة الدرس كان الطقس معدل ، و كمبيوترات و أقلام و ملصقات ضخمة لأبطال الخرافة الحديثة يطالعون الأطفال بحنو و ثقة ، و معلمة حسناء احن وارق و اعظم عطفا منى عليه و من كل تاريخ مودتى الزائفة و لؤمى الذى يتقمص هيئة الحنان و يتدثر بغطاء الطيبة!!
كم سولت لى نفسى ان اصفعه بالكف حتى يكف عن ( خمجه) ، فأرعويت خوفا من قبائل حلف الأطلسى و فريق البنتاغون أن يهبوا لحمايته فأقعد ملوما حسيرا ، كان الناظر يلهبنا بشواظ نظراته حتى حسبناه كاره لنا مثل ذوينا ( شيل اللحم و ادينا العضم) ، كنا صغارا نرتعد فرقا حين ( يقدل) فى الطابور مرددا- الضرب ينفعهم و العلم يرفعهم- و ما عاد للعلم نفع حين تضاءلت مقادير الثقة بالنفس و ضمرت ثم تلاشت فى زمن استعراض عسكرى لاحق!!!
و قبيل اداء نشيد العلم ، تصايحنا كل على حده ...فندى... حين تليت اسماؤنا للتمام ، و أجبرنا على رفع مقدمات جلابيبنا حتى يتأكد المشرف من نظافة سراويلنا ، وقفنا كالخيام الصغيرة البيضاء لا تحركها الريح ان هبت ، و صدرنا مثل الضفادع نردد..نحن جند الله ..جند الوطن ، و كان الوطن فى مخيلاتنا الغضة صورة حيزبون تضطجع على صفحتها فى عنقريب متهالك مهتك ، تتوسد ثنى الساعد، محدقة فى ( قرعة) فارغة ام انها ( قربة) مقدودة!!
درنا الى اليمين و تارة الى اليسار و تارة بلا اتجاه محدد، سعينا الى حجرات شاحبة شهباء ، نوافذها خضراء بالية الخضرة ، و مقاعدها فى صلابة الحجر نتزاحم عليها بأكثر مما تقوى سعتها على حمله ، كومة مهملة كنا ، يتغشانا الغبار فى مسيره ، و الأغنام الضالة ترعى فى نجيلة ميدان كرة القدم ، و الذباب و صيحات المارة و حتى لعناتهم البذيئة التى يتبادلونها دون حياء ، ننمو فى مجلسنا مثل النباتات البرية، خضرة مبكرة ثم ( ترتوس) ، ثم عذق صلب يؤذى اكثر مما يفيد ، ابى يسخر من قصتى و هو يستعد لدروس التهجئة ( اى بي سي دي اي اف جي)، يتراكض مع ( اليس) فى بلاد العجائب ، كل ابطال خرافته يطيرون فى الهواء و على ظهورهم عباءات ملونة ، فما عدت قادرا على تسميتهم ( بالكفار حطب النار) .
اخرج ابى غذاؤه ، المغلف بعناية ، المحدد السعرات و القيم الغذائية ، و تهيأت انا للأصطراع ورفاقى حيال ( قفاف) بت المنى ( ست الفطور) ، نصرخ بصوت واحد متصل مثل قطط جائعة، او مثل كلاب ( خرم شهر) ساعة حصار جيوش العراق لمداخلها و مخارجها حينما همت بأكل الجنود احياء من فرط جوعها ، و الجنود يصدونها غير عابئين بالقادسيين الجدد الذين يطرقون على ابوابهم دون ملل، ظلت الكلاب تنهش فى الذاكرة حين و ضعت الحرب اوزارها حينما اعيتها الحيلة من نهش لحم البشر ، و بعد ان اعيا المحاصرون الشوق الى ( ذو الفقار) يهبط من السماء فما انفكوا عن النداء ( على...على...على) و ظلت الأنعام تنهق ( ريغان...ريغان...ريغان) ، فما علم على الى اى جانب ينحاز...
تاج السر الملك
|