من الرواية:
مدائح التمساح، خرائط البيادقة
كما قصّة العفريت وابنة الخيَّاط
يَسُرُّني جَهْلُك، لا أحبُّ الجهلَ الصاخب، بل ذاك الذي يترنَّح من ثِقَل ما يَعْرِف، وهو وَاسِمٌ مثلَ وَشْمٍ، وصَادِمٌ كصفعةٍ في النوايا، وهو حكمة؛ لذا تَجِدُني أستعيذ بك. خُذْ أوهامَك واتْبَعْنِي، فلستُ سوى خُلاصَتِك النقيّة، ولستَ سوى قائدي العابر مِن حيث تَشْتَهِي النوازعُ أوصافَها الميتة، ومن حيث يكتسبُ الوَشَقُ إرادةَ الوشقِ فيه. دَعْني أسألُكَ وأنت المُبَاطِن، أتَعْرِف أين يدفن البَشَرِيّ ظِلَّه وجسدَه وروحَه الفزِعة؟. في مكان الخلائط؟. حسناً، أنا الآن عابرٌ نحوَك بلا وَجَلٍ ولا ريبة، إذْ لأنَّك تقول بأنَّ الأمرَ في كُلِّه دائرةٌ، سآتيك دون تنضيدِ بدايةٍ واهمة.
لستَ التمساح الوحيد الذي يقطن أمعاءَ كائنٍ بشري، ألا تَجِدُ في هذا عزاءً أو تفسيراً؟، بل لا تجده مقبولاً؟. لستَ التمساح الوحيد الذي لا يدري بأنه يقطن أمعاءً؛ أيضاً، لستَ التمساح الوحيد الذي يجهل أنه تمساح. كلّ هذا تجهله، وتحسَب أنّك مثلنا. مثلنا؟، لا، فأنا مجرّد رَاوٍ في آخر الأمر، وذاك ليس لَحْمَاً؛ إنَّ الذي يوجعك حين أمرِّر عليه شفرةً حادةً ليس لَحْمَاً، بل مجرَّد كلمات، ولنبدأ من نقطة صادقة، هذه محض رواية.
تأتيكَ رائحةُ نَعِيْم من الداخل، كلّ تلك العصائر بطموحِ بلوغِ كمالاتِها حولَك فابتهجْ، وتذوَّقْ مرارات قلق القولون، وتشبَّعْ بحبال المصير الملتفَّة بذريعة توصيل النعمة من مدخلها الفموي إلى مخرجها الشرجي، وانتفاخ الهواء الذي يَخْرُج ويَدْخُل كقضيبٍ يُمَالِئ اللذة، كقضيبٍ دون امتلاءٍ بصفته الطالبة اللهوفة؛ كارتخاءٍ لا مُبَالٍ تتحرَّك تلك الرئة، ويجب ألا تفترض في رتابتها الرتابة، فهي مفتاحك المجهول لِهَوَائِك المجهول، وهي عهدك الذي لا يُنْقَض. كُنْ وَفِيَّاً لنهر الصيرورة، وسأكون وَفِيَّاً لنعمائك في تبليغي جهالةَ وحكمةَ ما استطعت. خُذْ حكمةَ الكبد التي تحفظ رائبَ كلِّ شيءٍ وبها المكنون، خُذِ العَصَبَ الحريفَ الممراحَ الثاقبَ الكليمَ المتكلِّمَ الرَّسولَ حَصَّالةَ المعنى، وخُذِ العَضَلَ البريءَ النقيَّ مثلَ خلاءٍ رحيب، وخُذِ المفصلَ المرونةَ، الصَّدْرَ الآمنَ، الظهرَ الغافلَ، الرقبةَ التوجُّسَ، الأظافرَ الرِّدَّةَ، الشَّعْرَ طَلاقَةً، الكُلْيَةَ القُدْرَةَ، البطنَ الهشاشَةَ، والقلبَ ناراً وكوناً، والرأسُ يَأْتَمِر. خُذْ ما أنتَ فيهِ يا تمساحي، فإنْ تَرَكْتَ فيه شيئاً، مِمَّا تَرَكَتْهُ الجحافلُ دونَ حصادٍ، فارْفَعْ للجَحَافلِ عُواءً من هديرِ الجحافلِ فيك. لا تَتْرُك فيك إلا الحربَ، ولا تترُك فيه إلا الحربَ، ولا تَدَعْ خَسَارَةً إلا أَحْصَيْتَها، فهي مَجْدُك.
ذلك المكانُ من جَسَدِ نَعيم نسمِّيهِ بَيْدَق، حيث يقيم التمساح، على ضفَّة وخِضَمّ نهر الصيرورة، في مكانِ التراوُح بين الكفاية والكَفّ، وحيث يُنْبِئُنِي ما استطاع من الطِّلَّسْم. بَيْدَق تتكوَّن من ثلاثة عوالم مألوفة، ومن سبعة متغيِّرة، ومن حشائش كثيفة، وصخرة فجوات، ونهرين؛ نهر الصيرورة ونهر العدم. وبها ثلاثة جبالٍ تتبارى في وَصْل الأرضِ بأُخْتِها الأرض؛ جبل المرارة وجبل الحيرة وجبل القلق، حيث يُحْكَى، كما يَرِدُ في الصحائف، ضمن قصة العفريت وابنة الخيَّاط، أنَّ بينها سجن الحياكة الأشهر، حيث يواصل العفريت تعلُّم الحياكة من ابنة الخيَّاط طيلة الدهر، آمِلاً في حياكة بَيْدَق كلّها بعضاً ببعض، في نسيجٍ يرتكز على الجبال الثلاثة، شاملاً كلَّ أفانين تلك العناصر المخيفة المتعدِّدة، عناصر بَيْدَق؛ عناصر الضجيج المُحْكَم من ضرباتِ نَرْدٍ صفيحيٍّ عملاقٍ على طبول الخلائط.
- تِلْكَ حياكةٌ لا تكون .
كذا قالت ابنة الخيَّاط لخاطِفِها الطَّمُوح، الذي لم يكن ليعبأ، بنظرته الراغبة وجسده الجوع، بأيِّ تبرير:
- أمامنا اللانهاية نفسها لترويض اللانهاية، لنبدأ الآن .
توسَّلَت بالطبع، بَكَتْ له كثيراً، وجَثَتْ أمامه هلعةً، لديها أصدقاء بَرَرَة، لديها أقارب وُدَعَاء، لديها ما تغزله من قُطن التفاهة للتسلية، وهي تَقْنَع بذلك. لم يستجب العفريت المصْمَت إلا مِن فِعْلِ الجِبال فيه. وخشيةً من جفلتها، بَنَى سجن الحياكة، بَنَاهُ بلحم ملايين الإبَر ببعضها، ملايين لانهائية يستلُّ منها إبرةً في كلِّ درس، وأَخْبَرَها:
- حين ينتهي زادُنا من الإبَر نتحرَّر، أنا وأنتِ، من ربقةِ سجني وننجو .
وتَحْكِي الصحائفُ أنَّ الإبَرَ تتوالَدُ خلسةً في الظلام، مما يُفْزِع الحائكةَ كلّ صباح، بل وأصبح مفزعاً للعفريت نفسه منذ ما يقارب خمسين قرناً، لم ينجح خلالها سوى في انتمائه للعهد؛ عهد قِصَاصِه من الاستعصاء. إلا أنَّ تقارُباً نشأ بينهما، خلال تلك الأعوام الطوال، بحيث صارت انحناءات الإبرة في الحَوْك ترسم بينهما غزلاناً شاردةً ونموراً طليقةً وأفراساً تتغازل؛ ثم صارا إلى نَسْجِ أوضاعٍ شبقةٍ لأجسادٍ تتلوَّى بقدْرِ المرونة؛ إيماءات، ثم تعلَّما سوية كيف يُنْسَج اللطف نفسه، فنسجاه طرائقَ وخرائطَ وودياناً وأخاديدَ يصنع منها الهواءُ صفيرَهُ، نسجا طرائفَ اللطفِ حين يمرح، نسجا شهوةَ المرغوب للمرغوب، وأبلغا رسائلَ النسيج إلى النسيج؛ رسائل نسيجية خالصة كهِجَاءِ اليقينِ للرَّغبة، وتعلَّما كيف تقودُ المحبَّاتُ؛ عصا الضريرِ، الإرادةَ من خيطٍ لآخَر: عَرِفَا ما للجشع في نفس المحبَّة، ما للنحيب، ما للقسوة الخالصة وذِرَاع الجوع. عَرِفَا أنْ لن يُشْفَيَا، فصار نسيجُهما محضَ حجَّةٍ، محضَ ذريعةٍ للتسرِّي؛ ولَمْ يَعُودا يُبْصِرَان السجن، مَن الأبْلَهُ حَدَّ يُبْصِرُ سجناً خارجه؟.
كانت ابنة الخيَّاط تصحو كلَّ يومٍ على أصوات النوايا حين تعلو ببَيْدَق، تتمطَّى في فراشها، الفراش المدلَّل بحشية من الوَبَر، وتتعلَّق لَهُوْفَةً ببقايا نومٍ تملَّصَت من عينيها، وهلةً ثم تصبح قانعةً من النوم بهناءةِ التمدُّد دون حركة، تحاول ترتيب ما يُمكن من نواياها التي تختلط صباحاً بضجيج النوايا المحيطة. على العكس منّا، لم تكن ابنة الخيَّاط تصحو بذلك القنوط المرافق للصحو، وذلك الندم الذي يصيب المرء كأنما يلوم نفسه على خلق العالم. كانت ابنة الخيَّاط تتمطَّى لترمي عن العضلات بقايا النُّعاس المهزوم. وحين تنهض، تمسِّد جناحيها بلطف ورَوِيَّة، تشرب من مياه نهر الصيرورة، لكنها، بالطبع، لا تغتسل بها. لا أحد يغتسل من مياه نهر الصيرورة إلا المواليد والخطأ. تطير ابنة الخيَّاط مثل الجميع لتملأ جرَّتَها من السماء؛ حيث المياه قبل هبوطِها إلى الأرض، تلك التي لم تَنْتَمِ بَعْدُ لنهر معلوم، فلم تُسَمّ لها خصيصةٌ سوى التنظيف. كانت عقب استحمامها كلَّ صباحٍ تغنِّي أغنياتٍ تُبَارِك بها نفسها، دون كلمات، دون ألحان، محض مباركةٍ بلا توسُّل لصوت؛ ثم تُمْسِك بيدها الإبرة لتُوْصِد أخطاء الحياكة بوجه المُحَاك، تصنع جلابيب ملوَّنَةً للأطفال، وصدرياتٍ من ناعم القطن بحجوم أثداء الصديقات، تصنع أوشحةً عليها طُرُزٌ تصوِّرُ معاركَ الإلَهَين في عليائهما؛ أوشحةً من تلك التي تُعَلَّقُ على الأجنحة، وحواملَ كتَّانيةً رقيقةً لاحتواء القضبان والخُصَى، متذرِّعةً في الحجوم بخَبْطِ المصادفات، وأخرى لحماية الرُّكبة حين الهبوط عليها، وأخرى لربط الرأس تمييزاً حين الإثقال في الشرب. كانت تحوك مصائرَ البيادقة، لذا أَعْجَبَت عفريتنا التائه، وقرَّر، في صباحٍ مُرْهَقٍ من ثِقَلِ الليل عليه، اختطافَها. هكذا ظلَّت بَيْدَق لا ترتدي جلابيب الأطفال والصدائر والأربطة؛ أصبحت بلا مصائر معروفة بِحُكْم حياكتها. كانت ابنة الخيَّاط طفلةً لا تزال، لَمْ تختبر مسافدةً، ولم يجفِّفْ رِيْقَها حنين، حين اتَّخَذَت مُرْغَمَةً من ما بين الجِبَالِ مسكناً لها، تشتهي النهايةَ، والكونُ أبدٌ يَلِيهِ أبد.
- لِيَكُنْ نَسْجَاً كمتاهة الأقبية .
تُخْبِر العفريت، متفحِّصةً دقائق نَوْلِها.
- لِيَكُنْ صفعةً تليق بتقرير .
- لِيَكُنْ وحشاً .
- نعم، لِيَكُنْ كالذي يلتهمُ أمعاءَنا، لِيَكُنْ كمملوكٍ شاردٍ من قُمقم الفجوات .
- كَمَسَالِك المجذوب، كالقسوة في الحليب .
وما الذي في مُستطاعِنَا قولُهُ عن لانهايةِ الحَوْكِ سوى أنها بلا زيادة ولا نقصان؟. بذا، يخبرنا التمساح. يظلّ صوت النسج متردِّداً خلف كلِّ سيرورةٍ وصيرورةٍ ببَيْدَق، بينما يحتال جهال البيادقة على الأمر باجتناب الجبال. الجبال العالية المهيبة، بصخرها الرخام والصوان، وكهوفها المتشابكة المتداخلة، كهوف الأقدار المطهوّة جيداً بالرعب، وخباياها الزلقة، حيث تستجيب الريحُ لنزعة النَّاي فيها؛ رثاءُ كليمٍ يَعْقُبْه رثاء كليم. حيث يقيم الذئب، وكُلّ الذئاب، كما نعلم، هي الذئب وقد تكاثر؛ بوقفته الصلبة كأنّما شِيْد من لحمة الجبال ذاتها. الجبال الثلاثة والصحاري، تُعَلِّمُنا جولةٌ خاطفةٌ ببَيْدَق، أنجبَت الذئبَ؛ تكثَّفَ رملُها وصخرُها، كَفَّ عن تجنُّبِ جلافته البريئة النائحة، أخْرَجَ صلوات مادَّتِهِ فتشكَّلَت ذئباً، حزينٌ حَدَّ يبكي وهو يفترس، ونَزِيهٌ حَدَّ لا يُرَاوِغُ في الغريزة، وهادئٌ حَدَّ لا يَبْلُغ لهاثُه و لعابُه ما للضبع. الجبال الثلاثة ببَيْدَق، تعقبها صحاري الشرائع؛ تلك الصحاري التي تمتدَّ إلى حدودِ عجيزة الرَّصْد نفسه، بل تمتدُّ إلى ما يُجَاوِزُه؛ هذه الأماكن قَفْرُ الخارطة، حيث يليق بنا الابتداء، إنْ كان ثَمّة بداية، وحيثُ لا سبيلَ لبالغِها سوى العواء.
الجبالُ والصحاري جافَّةٌ ببَيْدَق، كأنما تشترط على جلافتها الجفاف، وإنْ لَمْ تَخْلُ من مياهٍ مالحةٍ كخداع، ومن بِضْعِ واحاتٍ، نالت عذوبتَها بتقطيرِ ثمارِ المخاوف مَرّةً بعدَ مَرّة. مكانُ المخاوفِ مرصودٌ أيضاً ببَيْدَق، كي لا يَظُنَّ بنا غفلةً، إلا أنَّه ممنوعٌ علينا بطبيعة لحمته. ناوَشَهُ البعضُ، بحذَرٍ غير مسبوق، والتَمَسَ منه البعضُ الذرائع؛ كذا أخْبَرَتْنَا المراصد، إلا أنَّه كان دائماً مستعصياً على الإقامة، إذْ يُذيب القلبَ؛ أترغب في ما يذيب القلبَ، ويخبرُ الرعبَ عن رعبه؟ ذاك مكان المخاوف.
بَيْدَق لَهْوٌ في الاتجاهات. تتبدَّلُ حَدَّ أنَّها غير مُسَمَّاة. تتغيَّر كلَّ أمسيةٍ، حَدَّ ليست بَيْدَق إلا الآن، في هذه اللحظة التي يتثاءب خلالها التمساح فجراً، وتُكْتَب فيها هذه الرواية؛ ما الذي كَانَتْه؟، ما الذي ستكونه في ما سَيُكْتَب وفي ما سيُطْمَس؟، لايَهُمّ؛ بَيْدَق لا تعنينا كثيراً، فهي ليست، في آخر الأمر، سوى حيلةٍ يحتالها الزمن على نفسه، وهي ليست سوى مكرِ البشريِّ بنفسه. تعنينا إجادةُ نَصْبِ المصائد للزمن، لنترُكه مترنِّحَاً بين فَكَّيْ تمساحنا، حائراً في التقاويم، مشغولاً بنَفْيِ تفاهته التي بصقةٌ مُبَلْغَمَة؛ ننصبُ للزمن المصائد، آمِلِين أن ينجو منها، فلِمَ ستُنْصَب المصائدُ عقب انهيار الطريدة؟.
ليسَ تَبَدُّل بَيْدَق ما يُعِيقُنا عن ذِكْر حقيقةٍ ما؛ بل لأنَّ بَيْدَق كلَّها شِيْدَت بالتعاون المُضْنِي بين كذبتين، تتحوَّر إحداهما لتصبح شيئاً، بينما تظلُّ الأخرى، ككذبة، في لِبْدَة الشيء، هكذا صار لدينا التمساح وكذبة، ابنة الخيَّاط وكذبة، النَّوْل وكذبة، العفريت وكذبة، الأقبية وكذبة، نعيم نفسه يتكوَّن من كذبةٍ وأعضاء أخرى هي كذبات أخرى تلتصق بكذبات. باطنُ نعيم كذبةٌ مثل ظاهرِه، كلُّنا، أنا والتمساح ومغدور النوايا بِتْنَا نَعْلَم؛ وإنْ لَمْ يَغْشُشْنَا حزنٌ، إذْ بعدَ تمامِ اليأس لا يكتملُ لحزنٍ نِصَابُه.
الكذبةُ عنصرُ اللامتبدِّل، كانت تَدَّعِي تَوَارِيَاً خلف ستارة هذا العَرْض، بتواضعٍ ذميمٍ بيننا على التكتُّم؛ لكنّني مجبولٌ على الخيانة، تلتمعُ داخلي في أوانها كأسنان التمساح راصدةً مثل عيناه، لذا أُزِيلُ الستارة. حين تَظْهَر، تبدو الكذبةُ بَلْهَاءَ في ثوبها القصير الملطَّخ بالحبر، بَلْهَاء؟، لا تصدِّقها يا تمساحي، إنها تكذب. تصفيق، وينهضُ الجميلُ نفسُه لاستقبالها، وينهض الجليلُ نفسُه، تنهض القداسةُ بثيابها المسْدَلَة، يتوارَى الخطأُ بجناحيه، تتطاوَل الرغبةُ من وراء الأكتاف العالية للمعروف، طامحةً في ابتسامةٍ تسهِّل لها يومَها، ونبتئسُ نحنُ بتأثيرِ كلِّ رَوَاكِضِ الأزلِ فينا، لكنَّنا نصفِّق، الكونُ كلُّه يصفِّق للكذبة، وهي تمنحُهُ ابتسامةً تتجاهلُ الكذبةَ فيه؛ أيْ تُكَذِّبها.
سوى الجبال الثلاثة وما ذَكَرْنَا، بَيْدَق غاباتٌ هي شَعْرٌ كثيفٌ بعَانَةِ الخارطة، تمتدُّ من آخِر البطن إلى عروق الصَّفَن، وهي أيضاً غاباتُ المَصَارِين، لا تعبُرها دون ضياع، دون أن يَسْقُطَ منك شيءٌ، دونَ أنْ تفقِدَ أحَدَك وتستبدله بآخَر؛ وهي صورةُ الالتباسِ كَمَا تَحَقَّق، زيت الاختلافات. ثَمَّةَ قولان، أحدُهُما يقرِّر أنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ غابةٌ ببَيْدَق، كان مكانُ الغاباتِ فجوةً تمتلئُ فراغاً، وبذريعتها كانت بَيْدَق مسطَّحَةً ومحدَّدَةَ الحَوَاف، كانت هناك ساحةُ الأمنياتِ، وصخرةُ الفجواتِ، ومنازلُ جوف نعيم، بسكَّانِها البَيَادِقَة؛ كما كانت الجِبَالُ تستندُ على الصحاري وَحْدَها، لذا لَمْ تَكُن تتجاوزُ تلالاً كفِيَلَةٍ بيضاء، ولَمْ تكن هناك حفرةُ الارتباك. القول الثاني ينصُّ على أنَّ الغاباتِ كانت دوماً هناك، فقط نحن؛ نحن الذين أغلق الحذرُ أبصارنا، لَمْ نكن نَقْدِرُ على إدراكها. أيُّهما صحيح؟. ألم نتَّفِقْ على شأن الصحّة في الأسطر الماضية؟.
أوراقُ الشَّجَرِ كثافاتٌ مِن شَعْرٍ أَكْرَت، تمتدُّ طبقاتٍ متداخلةً، وتَعْلُو بعضُها البعض، محيطةً ببعضها كما يحيطُ قلقٌ بآخَر، فإنْ كنتَ أسفلَها، أيْ مُجاوراً لحدائق السِّيقان؛ صَلاة الخشب، لن تُبْصِرَ من الشمس إلا رطوبةَ انعدامها، ونباتاتِ الظلِّ الهشَّةِ المحصورة الطموح، المكتفية بهدايا الضوء، سرخسياتٌ ونباتاتٌ عُصَارِيَّةٌ ومتسلِّقةٌ كزهرةِ الشَّمع، والطحالب المتسوِّلة، تلك الفريدة في لمعانها مثل أكوانٍ من الكسب الملحاح للامُبَالاة. بين تلك السيقان، تلك التي لا يُفيدها الحصر ولا تُفيده، توجد مضائق سين؛ في المجهولِ لدينا من غابةٍ يمكنك أن تمضي خلالها مئة عام لتَبلُغ مكانك، توجد تلك المضائق المريبة. حنانُ التكوين وحدَه، لا سبب آخر، جعل إحدى منافذ الأقبية مفتوحاً على تلك البقعة، حيث يتمّ إنجاب الأجنّة الذين نعدّهم مجهضين، وأولئك الذين نحسَبهم لَمْ يُوْلَدُوا قَطّ، مثل الجنين الناتج عن مصافحة محبّين، أو ذاك الناتج عن تبادُل نظرةٍ شبِقة. هذا عالَمٌ آخَر، عالَم دونَه حِجَابُنا؛ حِجَاب التراكم، لذا هو مُغْلَق بمتاريس الحروف الثمانية والعشرين؛ متراسٌ تلو أخيهِ من معدن الحرف الذي لا يصدأ، المتاريس التي كانت أبواباً ولم يبق منها سوى الأقفال، تحجب عنّا كل الرَّحابة التي جهلاً سَمَّيْنَاها مضيقاً. تُفْتَح مضائق سين وهلةَ استقبالِ وافدٍ من قاطنيه الجدد، أجنَّة الاستحقاق؛ حيث ينتابُكَ حينَها الإحساسُ بما يُسْعِدُ في العالم، بل الإحساس بالعالم كما يَسْعَد بنفسه، وتلك لحظةٌ نادرة.
كان يَعْلَم، الكونُ كُلُّه كانَ يَعْلَم، بثلاثة دلائل سينيّةٍ قاطعة، أيْ بناتي الثلاث النبيَّات، أنَّ في مضائق سين، رغم ضيق ذات السين، نفَّاج السَّعَادات الطَّرُوب لهذا العالم. إلا أنَّ السين متعذِّرٌ بلوغه، إذْ يَطْلُب منك إبراز اللُّغة في أوَّلِ بوَّاباته، فإنْ قَدَّمْتَ لخفراءِ السين هذه اللُّغة التي تَحْمِلُها مُنَجَّسَاً برائحة عفونتها، أيْ عبق ملايين الفطائس اللُّغويّة، سَخِرُوا منك وحَجَبُوا دخولك إلى مأوى السلالة؛ فإنْ أصْرَرْتَ وأخبرْتَهُم أنْ نَادُوا لَيْ كَافْكَا مِنْ جُوّة، نظروا إلى بعضهم مُجْفَلِين، وأزاحُوا عِصِيَّهُم الذائقيةَ مِنْ المدخل بأيْدٍ معروقةِ الجَمَال، صلبةٍ مثل ريبة. أتَدْخُل؟، لا، إذْ، رغم انفتاح الطرائق، لَكَ مِنْ سَعْيِكَ سياجٌ، ولَكَ مِنْ زوائد على كعبيك ثِقَل، وأعاقت حنجرتَك الحواشي، وكَثَّفَ جناحيك الضلالُ فصارا جَنَاحَي حَجَرٍ مُعَبَّأٍ بالفلز. مضيقُ سين مُغْلَقٌ كقولِكَ أنا. تُدْرِك، وأنت واقفٌ على أعتابه. يعْبُرُك الأبدُ ذرَّةً ذرَّةً ولا تُبْصره. وتَجْلُوكَ المسافةُ بأبصارها، فتغدو أَلْيَسْاً كورقة لعب، لا خيارَ سوى أنْ ترجع حاملاً تحت إبطك بطّيخةً وصحيفةً أَنْتَنَها عَرَقُك؛ مشهدٌ مكرورٌ مِن دارِ عرضٍ أُعِدَّت بَكَرَاتُها للتقيُّوء. تَعْلَمُ جيّداً، كما يَعْلَمُ الأَبْلَهُ فيك أيضاً، أنَّك ستعاود الكَرَّةَ غداً.
المضائقُ، إذْ لا دخولَ، نادلٌ للمَرَارَة. أنْ تُحِيطَ كمالَها بخيالك، وأنْ تُدْرِكَ الاستعصاء بعَقْلِ قَدَمِكَ اللَّهُوف، وأنْ تُرَاوِغَ، تَتَحَرَّى، تنسج حجَّةً بدُبُرِ حجَّة، حيلة تتوسَّل بحيلة، ولا تَبْلُغ. أنْ تتراوحَ درجاتٍ في البُعْد، وأنْ يَصِلَ اليأسُ حَدَّ اعتبارِ الوصولِ درجةً في الضلال، وأنْ لا تَكْتَرِثَ لفَرْطِ ما اكْتَرَثْت. بوابةُ نزاهةٍ تقف هناك، أمام حُرَّاسِها زَبَانِيَةِ المضائق وزَبَانِيَةِ العالَم لازدِواجِ وظيفتهم، فذاتُ البابِ مخرجٌ ومدخل، وذاتُ البابِ يأسٌ وعَشَم؛ وذاتُ البابِ لَيْسَ ذاتَ الباب، بل البابُ بصيرةُ الرَّائي.
في الأصلِ الافتراضيِّ المعلومِ مِن آيات بَيْدَق، لَمْ يَكُن حُرَّاسُ السِّين الملثَّمُون بالمعرفةِ سوى فصيل، محض فصيلٍ، من حُرَّاس المدائح الخلفاء في وادي السّجوع. قومٌ غِلاظُ الألَم، بأفئدةٍ رنَّانةٍ بالهَوَايِل، عليهم عباءاتٌ وأَوْصِدَة، وعلى أعيُنِهم، أيْ ما يبدو لنا من وجوهم الملتفَّةِ بالقماش المطرَّز، كُحْلٌ مِن منقوعِ فاجعة. حُرَّاسُ المدائحِ جَوَّالةٌ في بَوَادِي الرَّمل ببَيْدَق، جَوَّالَةٌ يَهْدِمُون اليومَ ما شَادَوْه بالأمس، وعَمَلُهم ليسَ سِوَى المطاردة. يُطَارِدُون المديح؛ ما إنْ يُبْصِر أحدُهُم مديحاً حتّى يَزُمَّ يدَه على فَمِه، مُطْلِقَاً صوتَ كلبةٍ في المخاض، ليلتفَّ الفصيلُ بأكملِه حول المديح المنمَّق المسكين. يأتُون من كلِّ بقاع بَيْدَق، بالأجنحة والأقدام وعلى أكُفِّ العفاريت، رَامِينَ الحفاظَ على أصلِ المديح كطريدةٍ وفَخّ، متكالبين عليه بالأقواس؛ قوسِ الكفايةِ وقوس الكَفّ، حرفة الصنائع كلها، مَرْدُود وادي السجوع.
يَدَّعِي المديحُ نَسَبَاً في الحنان، يَدَّعِي صِلَةً بالعطش الذي في حلقي، صِيغة الحادب، إشارات الموَدَّة؛ للمديح ترسيمةٌ في الطَّيْش، خلاصةٌ في الرُّعونة، وللمديح النقص: كلُّ مديحٍ ناقصٌ، لا مديحَ يكتمل؛ كذا لا كمالَ يُمْتَدَح. وهذا يستنِدُ على وثائق من صحيفةِ المواضعاتِ تزعمُ أنَّ بَيْدَق ستشهدُ كمالاً واحداً، مَرَّةً واحدةً تَثْقُب، وكُتِبَ أنَّه حينَ يَحْدُث تَمْدَحُ بَيْدَق كُلُّها إلى أنْ تُفَجِّرَها قسوةُ الكمالِ الفَاشِيَةِ الماحقة، ويبقى التمساحُ وحدَه لأنَّه لن يُخْدَع؛ إلا أنّه سيُصاب بالضجر، ولن يتبقَّى له سوى أن يَستمْنِي طيلة الدهر في استمناءةٍ طويلةٍ لا تَنْفَد؛ تصبحُ تاريخَ بَيْدَق.
جاء في صحيفة المواضعات:
عبارة يوم شكرك صادقة تماماً يا تَمْسُو. وبلاغَتُها، ككلِّ مَجَاز، تتجاوز دلالتها المباشرة لتخدمَ تأمُّلاً لاحِقاً. رَبْطٌ عبقريٌّ بين الشُّكْر والموت؛ وإنْ كُنَّا نَعْلَم مراميه المباشرة، والمرتبطة بذِكْر محاسن موتانا، إلا أنَّ الدلالات ليست رهينةً دائماً بفخاخ النوايا، إذا تجاوزْنَا، بتعمُّد مفرط، محاولات التعامُل الأداتيّ الدائمة مع اللغة. يوم الشكر يوم موت، ودَعْكَ مِن أنَّ مديحَ العالم كله لا يتَّسع لكفايةٍ أو لعزاء، ومَنْ لا يُبْصِر نفسَه جديراً بما هو أكثر؟. أجسادُنا، وإنْ قَسَوْنَا عليها، رحيمةٌ بذاتها، غفورةٌ لذاتها، راعيةٌ لبقائِها ما دُمْنَا لَمْ نَنْتَحِر.
يوم الشكر يوم موت، بل قِيلَ إنَّ الشَّاكرَ لنفسه إبليس ، في مقولةٍ أجدُها صحيحةً في ما سأبسط من حجج؛ إذْ في الوهلةِ التي يصيبُ فيها المرءُ نفسَهُ بطمأنينةِ الشاكر، والطمأنينةُ سكونٌ يَبْتَرِدُ له القلب، فهو موت؛ قطرةُ طمأنينةٍ تُذِيْبُنِي إذْ تَبْلُغُنِي، وأحتاجُ إلى إعادتي، من الأوَّل تاني، بذات المجهود يا تَمْسُو، بذات المجهود؛ وهذا مؤلِمٌ حَدَّ أنشج باكياً كلَّما أصابني، البِكَا العديل أبْ مَخَاخِيْتْ دَاكْ يا تَمْسُو.
إلا أنَّ التوقُّفَ عن الغرور مفسَدةٌ وموتٌ آخَر. وما الغرور؟ سوى توهُّمِكَ ما ليس فيك؟. وما دامَ لا وصول، أيْ لا وجودَ لآخِر محطَّة، فما الضَّيْر؟. وما الذي يعطِّلُه الغرورُ حقَّاً في القلبِ، والحال تلك؟. بل ما الذي يدفع إلى الحركة أكثر من غرورِ حَمْلِ العالَم على كَتِفِكَ الصغيرةِ المُدَمَّاة؟. إلا أنَّ الغرورَ تُفْسِدُه البلاهة، أيْ تلك التبجُّحَات اللانهائية، والتي تُنْسَب ظُلْماً إلى الغرور، بينما تنتمِي إلى التَّعَالي السخيف كبهيمةٍ نافقة. احتكارُ الغرورِ ما يخلق فسادَه؛ أي السالب، والغرور بالسَّلْب يَبْنِي نفسَه على الآخر، يكتسبُ قيمتَهُ من الاضْطِغَانِ والحقدِ والرغبةِ الاجتماعيةِ في التفوُّق. ولَكُمْ في هيجل وهيجليُّوه درسٌ في كيف يكون الفكرُ فَاشِيَّاً ومُغرماً بالسَّلب. ولَكُمْ في الأديانِ المَسْمُوَّةِ وغيرها، ولَكُمْ ولَكُمْ؛ كُلُّ غرورٍ مهتمٍّ بالآخر، بإثبات ذاتِهِ للآخَر في الجوهر، غُرورٌ نافقٌ، وموت جديد. إنَّ الغرورَ، المظلومَ لكوننا ارتكاسيِّين، طلاقةٌ راقصةٌ؛ إلى متى سنحتقر أوهامنا البارقة؟.
يوم الشكر يوم موت؛ لأنَّ الشكرَ آلةُ الطمأنينة. لأنَّ الشكرَ فَهْم.
* من سودان فور أول.
|