وانا اقفز فى ماء النهر
وانا اقفز فى ماء النهر
Spiritual beings having human experience
( الجبنة ؟..... الجبنه ، وين بلدا؟؟؟)
حديث عوض الله سيد الدكان
حدق الطفل في وجه صاحب المتجر ، فرآه يكتسي بصبغة الكذب التي لا لون لها، في داخل متجره الضيق المظلم كان التاجر يكذب ما بدا له، كذب مبرر يحمى به بضائعه من غزو المستجيرين بظلال الاستدانة من قيظ الفقر و الأعسار. تحجر الطفل في مكانه و تحجرت نظراته، يده اليمنى ، التفت من وراء ظهره ممسكة باليسرى في عضد رقيق، تلعثم قائلا
- عمى عوض الله عندك جبنه؟؟
- جبنه؟؟ الجبنه وين بلدا؟؟ يائسا أجاب ، متظاهرا بالعطف، ثم هامسا حذرا من أن تلتقى عيناه بعيني الطفل
- ( أدوك قلوش؟؟)، قفز اليافع كأنما انتزعه الصوت من حلم.
- ادوني
- كم؟؟
- خمسة قروش
قفز التاجر منتزعا نفسه من الحلم عنوة، هب من مكانه متظاهرا بالبحث عن شيء، في مكان ما في الركن القصي من الدكان، قلت خمسة قلوش؟؟ أتى صوته كأنما يتحدث من داخل بئر، أفاد اليافع بالإيجاب، عاد الرجل من رحلة الجوالات و الزكائب و الصفائح الصدئة، يحمل قطعة الجبن الصغيرة، منغرسة في مقدم السكين الضخمة الحادة، طلب أن يرى قطعة النقود بعينيه، فوضع الطفل القطعة على الطاولة، رفع عوض الله أوقية من الحديد، ووضع ربع أوقية، و فتش عن قطع نحاسية دقيقة، و أوعية مفلطحة متساوية في إحجامها و إشكالها، و في منتصف الميزان العتيق، أنتصبن ساقين من النحاس كأنما رجل يمارس رياضة صعبة، يرفع ساقا و يحط ساق، ثم تساوت الأوعية النحاسية المفلطحة، و خرجت قطعة الجبن مستترة في ورقة الصفحة الرياضية القديمة، الفاضل و لا بابكر الجاب القون؟؟
بابكر ...بالكعب.
ظهر البلل على الورقة ، فتهتك أسفلها، و برز جزء من مثلث الجبن ساطع البياض عبر حبر المطبعه، ذاب وجه الفاضل و تعابير وجهه الحازمة و هو يهم بالتهديف، فأخفق جهده و تبدد.
نظر الطفل إلى الوراء مرة واحدة ، كأنما ليختزن من ضوء المتجر الضئيل طاقة يستعين بها على السير في الدرب الذي يرقد أمامه فى صمت، لوح بيده التي لا تحمل الجبن، ثم ذاب فى الظلمة.
2
- امبارح اتعشينا بى جبنه من دكان عوض الله
- كضاب...الجبنه معدومه.... الجبنه وين بلدا؟؟؟
3
رأيت هيئتي و أنا أقفز في ماء النهر، كنا قطيعا من الوعول الوحشية، نبحث عن رفقة في هذا الزمن الصعب.
4
توقفت سيارة الإسعاف في اقرب نقطة ممكنة أمام باب المنزل 3808، هرع من داخلها ، ثلاثة من الفتيان الأشداء قفزا، و قبل أن تمتد يد أولهم لتطرق الباب، انفتح الباب و تبدى شبح ( مس غريس) جالسة على كرسي ينوء تحت ثقل جسدها الضخم، و في الظلمة كانت عيناها تتحركان في محجريهما، ووجهها لا يشي بخوف و لا يعترف بوجوده، انضم رجل رابع إلى المجموعة، أتى يسحب النقالة فوق العشب المتنامي بين الطرقة الضيقة و المدخل، ثم انضم إلي الثلاثة، فصاروا خمسة أشباح تتحرك بعصبية داخل إطار الباب المفتوح، انحنى أربعة أشباح لرفع جسد (مس غريس) على سطح النقالة، دقائق مرت فأصابهم اليأس، اعتدلوا في وقفتهم مرة أخرى، دعكوا أسافل ظهورهم بأيديهم، أخذ كل واحد منهم نفسا عميقا، ثم أعادوا الكرة، علت أصوات اثنان منهم باللعنات، و جأر اثنان بالشكوى، وعلى درج يمتد مستقيما إلى الطابق العلوي، بدا شبح امرأة في التقدم الوئيد نحو المشهد الأول، كانت تحمل بعض الأغراض في يديها، رفع الرجال رؤوسهم و هبوا لملاقاتها، و لعلهم سألوها أن كان بإمكان أمها السير معتمدة عليهم إلى النقالة، وصل سائق التاكسي الباكستاني في تلك اللحظة ، سائق التاكسي الذي يأتي بزجاجة الخمر كل ليلة إلى ( مس غريس) دون علم ابنتها، و دون علم يسوع، مضى في طريقه عندما شهد الجلبة و حين زأرت الأبواق من خلفه تتبعها صيحات و سباب.
أيقظت الضوضاء (ملفن) فنهض متثاقلا من فراشه، أزاح الستارة من على شباكه المطل على الشارع يرقب المشهد في الدار الملاصقة لمنزله في نصف أغماضة، كان ينام و التلفاز مفتوح يتقيأ البرامج المعادة و نشرة الأحوال الجوية المملة، اغفى هذه الليلة وهو يضحك ملء رئتيه على قفشات ( مايك مايرز) ، كان يضحك دون أن يسمع نهايات الطرفة، و الغرفة مهملة، قذرة، يفتح بابها على الحمام و روائحه النفاذة، رمى رجال ( المارشالز) الأقوياء بأخيه (مايكل هيد) على قارعة الطريق، قذفوا به خارج الدار،لم يتمكن من دفع أقساطها في الثلاثة أشهر الأخيرة، رموا بمتاعه و أغراضه و أثاثاته في الطريق العام، و قبل أن يتمكن من اكتراء شاحنة لنقل أشياءه، انفتحت مزاريب السماء وهطل المطر بغزارة، حفيدته الصغيرة التي عاشت في كنفه، أخذوها إلى الملجأ حال عودتها من المدرسة، أبرقوا والدها الذي كان يؤدى خدمته العسكرية في فلوريدا، وصل في اليوم التالي، التقطها و بقية دمع جف على مقلتيها، مشى أمامها في خطوات واسعة سريعة، فأجبرت على العدو للحاق به مثل آخر امل في حياتها، تبعته و يداها قابضتان على لعبتها الأثيرة.
شهدت ( دايين) من مكمنها خلف الباب رجال ( المارشالز) منهمكون في لذة تحطيم الأثاث. كان ( ويلى) يزورها في أوقات متعددة من اليوم ، خرج منها هذا الصباح بمشيته البطيئة مودعا مخدعها لاهثا من فرط قدم وجوده على الأرض، توقف عند الرصيف، مصمص شفتيه، نظر يمينا و شمالا، مد يداه وسط الأغراض الملقاة على الأرض، نبش فيها و تخير ما أراده منها دون وازع من خجل أو تبكيت ضمير، تمتم في سره فادعى بأنه سيحتفظ بالأغراض الثمينة خوفا عليها من المطر، و عندما يعود ( مايكل هيد) سأرجعها إليه.و لكن ( مايكل) لم يعد، و مات ( ويلي) بعد ذلك بستة أشهر على فراش ( دايين)، و بقيت المسروقات سليمة في مخبأها بالسرداب.
قبض على ( مايكل هيد) بتهمة التبول في حديقة عامة بواشنطن دى سى، اتصل الشريف بأفراد لا يمتون إلى مايكل بصلة، و لكنهم كانوا قد استأجروا منه الطابق الأرضي في فترات مختلفة، أعلمهم الشريف بالحضور لاستلام بطاقات اعتماد و بطاقات تلفون و أشياء أخرى وجدت في حوزة المتهم، لم يسمه الشريف لهم بغير( الموضوع)، أدرك ( روى) أن هذا الفاعل لا محالة ( مايكل هيد)، لأنه كان يحتفظ لنفسه بنسخة من مفتاح صندوق البريد، قال ( روى ) للشريف انه مايكل و انه ابن قحبة، استمر الشريف في التزامه بعدم إطلاق اسم على الفاعل، و لما لم يكن هو قديسا أيضا فقد تمتم في سره ( كلكم أبناء قحبة)، تلفت يمنة و يسرة خشية أن تفصح عيناه عن أفكاره المقيتة. في الطريق إلى المخفر توقف (روى) عند موعده في صالون الحلاقة، (فريدى) كان حلاقه المفضل، الذكر الوحيد بين خمسة من المزينات النساء، وجده ( روى) كعادته مستغرق في مغالطاته التي لا تنتهي مع زميلاته العاملات، كم تقدرين ثمنا لحذائي الجديد؟؟ ينتظر الإجابة و عيونه تتألق بالانتصار، خمسة و عشرون دولارا؟؟ تجيبه ( توني) وهى متأكدة من سقوطها، و كما حزرت فقد أطلق ضحكته الهازئة و اقترب منها هامسا..سبعة دولارات فقط..تخفيضات ليوم واحد ،هكذا أنا، دائما محظوظ. أوصته أمه ( ساندرا) كثيرا بألا يحدث بحقيقة الأثمان التي يدفعها لشراء أغراضه، فأن كان لابد فاعل فليرفع السعر حتى يبدو ثريا فى نظر الناس ، عوضا عن أن يصفوه بالبخل و العبط . تجرأ (روى) يوما و سأل ( تونى) أن كان ( فريدى) مخنثا، معلقا على نعومة صوته ، و طريقته في إطلاق ذراعه في الفضاء و هو يتحدث، قالت ( تونى) بأن ذلك ناشيء عن تربية أمه و تدليلها له، ثم أضافت، و لكن من يدري؟؟، انتهز ( روى) فرصة المحاورة و زج بطلبه لرقم هاتفها، أعلمته (تونى) على الفور بأنها متزوجة، و لكن زوجها لا يرى بأسا من خروجها مع بعض الأصدقاء للترويح، بعد أسبوع واحد من حديثهما، نهضت (تونى) من مرقدها جوار (روى) وهى تغمغم ( يا لك من وحش) أشعلت سيجارة من علبة (فيرجينيا سليم) ، و ظلت تهذى بأوصاف زوجها، ابن القحبة ، ابن السفاح، حتى لم يتبق في قاموس السباب كلمة واحده لم تذكرها .
أعلمت( ساندرا) أخواتها و نحن مقبلون على دخول الكنيسة، بأننى (موسلوم) و تارة(موزلوم)، تبدى نوع من الامتنان المريب على وجوههن، تساءلت أمها العجوز المقعدة (و ما معنى موسلوم و كل هذا الهراء)، تبرع ابنها ( مايكل) المعلم الأنيق بالإجابة ( ازلام هو دين اكتشفه اليجا محمد....أليس كذلك)، باغتني بالسؤال، و لم ينتظر الإجابة فواصل حديثه إلى أمه ( مثلهم مثل المعمدانيون...)، بعد دقيقة واحدة كانت الجدة قد فقدت تركيزها تماما و لم تعد تعلم عم يتحدث ( مايكل)، أريكا حفيدتها ظلت تدفع مقعد جدتها في صبر نحو مدخل الكنيسة، حثيثا يتحرك الصف إلى حيث سجى جثمان (مايكى)، بينما ظلت ( ساندرا) تحدثني بصوت عال ( لن نعتب عليك أذا لم تدخل الكنيسة للعزاء، نحن نقدر انه ربما يكون محرم عليكم في دينكم دخول الكنائس..نحن نفهم...)، طمأنتها بان كل شىء سيكون على ما يرام، و أن الله يفهم أيضا، فابتسمت، ثم عادت و أكدت لي بأن الطعام سيكون شهيا.
اتخذت موقعا فى الصف الذي يتجه الى سرداب الكنيسة حيث يقدم الأكل و المرطبات، لم أود مشاهدة الجثمان، لم أشأ أن أرى (زازو) ممددا بعد أن كان يملأ الدنيا ضجيجا، و حينما تجمهر الناس للبدء في التحرك لمسيرة التشييع، سألتني ساندرا ( أرأيت كم كان يبدو ملائكيا في نعشه؟؟)، لم ادع لعيني أن تلتقي بعيونها الذكية، خشيت أن تنفذ إلى سرداب كذبي، و لكنني تذكرت صورته بلباسه العسكري في مكان ما، فأحنيت رأسي بالموافقة.
جلست (موديستين)على مكتبها الفاخر تتناول طعامها عليه على غير عادتها، تصاعدت رائحة الدجاج المشوي، امتزجت الأوراق أمامها بالدهن، و تناثرت على سطح زجاج المكتب الصقيل قطع صغيرة من اللحم و العظام، كانت دموعها تسيل في هدوء على خديها، ازدادت شراسة في مضغ أجزاء الدجاج بأسنانها وهى تهمهم في غيظ في نفس الوقت، تشجعت أختها (ديبورا)، خطت ناحيتها ووضعت يدها على كتفها فى حنان ( هربرت مرة أخرى..أليس كذلك؟؟)، اخفضت ( موديستين) رأسها بالإجابة، ثم انفجرت فى بكاء حار، ركضت ( ديبورا) و أحكمت إغلاق الباب، عادت فأحنت ركبتيها حتى صارت في مستوى وجه أختها الجالسة، تطلعت ألي وجه اختها الثرية الطافح بالدمع، بعيون واسعة زادها الفضول اتساعا ( من هى هذه المرة؟؟ سكرتيرته في بورتسماوث؟؟)، ثم سكنت تنتظر الإجابة فى لهفة، طال عليها الانتظار، فأعادت السؤال بعمق و تركيز أشد ، و لكن ( موديستين) لم تجب،و أنما نظرت فى عيون أختها ديبورا بعمق و تركيز من نوع آخر، توقف دمعها عن الهطول، عكفت فى اللحظات الت تلت على تنظيف مكتبها و كأن شيئا لم يكن، رن جرس الهاتف، فانتظرت سماع صوت زوجها عبر وسيط الأجابة فقال فى ختام رسالته
We are spiritual beings, having human experience.
فتحت النوافذ، فأنتشر صوت ( ماكسويل) فى ارجاء الغرفة..
عاد الصبي إلى دكان عوض الله، فأنتبه الرجل الى وجوده الضئيل، وجوده فى عمق سكون المتجر و فقاعة الصمت التي تحتوى هذا السكون
- داير شنو تانى
- ما حاجة، ابوى قاليك جبنة امبارح شوية ما حقت شلن
انكمشت فقاعة الصمت، و انشغل خيال الصبى اليافع برسم صورة زاهية لبلد الجبنة.
|