7
وعلى النقيض تماما منه كان عمك ، باسم الثغر دائما ، خفيف الروح ذو دعابة حاضرة وشخصية قوية اسرة لطيفة وقدرة فريدة على اكتساب ود الاخرين ، كان حين يضحك يرتج جسده باكمله حتى تبلل خده الدموع ، وحين يبكى يعود طفلا غريرا ساذجا لا يعرف معنى الحياء او اخفاء المشاعر ، كان مزيجا غريبا من قلب الاسد فى قوته حين يتطلب الامر الثبات والجلد ، ورقيقا كالاطفال فى لحظات الحنين واندفاع المشاعر ، كان مباشرا وواضحا كصفحة النهر فى الاصيل ، وكان يجمع بين خصال متنافرة قلما تجتمع فى شخص واحد ، مثل ان يكون المرء محبوبا ومهابا فى الوقت نفسه ، رقيقا وحازما ، مباشرا وحكيما ، كان جدك يخصه بحب وفير ولا يكف عن التباهى به بمناسبة ودون مناسبة ، كان يقول دائما كلما يراه عبارة لا يكف عن تكرارها حتى صارت محفوظة لدى ظهرا عن قلب (عبدالله اخذ منك واخذ منى واخذ من ابى رغم انه لم يره ابدا ، اما ماذا اخذ منك وماذا اخذ منا فهذا ما لن اقوله ابدا فانت تعلمين ) كنت اضحك وانا انظر الى حبات البن واقلبها على مهل واقول : (اخذ منكم اجمل ما فيكم وحسنا ما فعل ، والا...) كان جدك يضحك ملء شدقيه ويقول : (انت لا تهزمين ابدا ... هكذا النساء ، لو اردن ان يجعلن الارض سماء والسماء ارضا لفعلن دون ان يهتز لهن جفن) ... كان ابوك وعمك احب ابناء جدك الى نفسه برغم انهما كانا الاخيرين فى سلسلة طويلة من الذرية التى تبعثرت مع الزمن ، ارتحلت البنات مع ازواجهن ، نشأ احفادنا بعيدين عنا وبعيدين عن بعضهم البعض ، المدن تقاسمت الذرية فى لهفة كما يتقاسم قادة منتصرين غنائم حرب وفيرة ويتنازعون فيها ، اما اكبر الابناء فلم يعمر طويلا رحل فى الصبا الباكر قبل ان يتزوج حتى مخلفا وراءه غصة فى الحلق وفراغا كبيرا لم يسده الا مجىء عمك وابيك بعد اربع فتيات، حمل ابناءهن ويعود الى الدار سكونها القاتل من جديد ويعود جدك الى التبرم والسكون (هكذا ولادة البنات ، تزرع ويحصد غيرك ، وتعود كما كنت فى البدء تنتظر المعجزة فى اواخر الخريف) ، تنتظر ابناء من صلبك واحفادا يحملون اسمك فلا يغيب الاسم حين تغيب ، وحين يئس جدك من حدوث المعجزة جاءت المعجزة معجزتان لا واحدة ، وكشجرة حراز ضخمة انتظرت الصيف طويلا لتخضر عاد الى جدك بريقه من جديد ومضى مختالا كطاوؤس بعد صيام طويل ، وكما يحدث للناس دائما حين يبلغون هدفا فيطمعون فى المذيد ، اخذ جدك يستعجل دورات الزمان ممنيا النفس ان تمتد الايام به حتى يحمل احفاده من صلب ابنائه ، كان فى سباق محموم مع الزمن واعتلال البدن ، وحين وقف على اعتاب الحلم حدث ما حدث وتبعثر الحلم شظايا .
وحين تسكن الحركة فى الدار وتغطين والنوم فى وداعة انظر اليك طويلا وانت نائمة اتسلل على اطراف اصابعى ، القمر يرقد على كثبان الرمال كعروس ليلة عرسها ، السماء مرصعة بنجوم ساطعة كعقد فريد يتلالا فى الظلمة ، انظر الى وجه جدك الساكن كظهر صخرة عند شط النهر ، تهتز المسبحة فى يده بعفوية ، متبادل النظر فى صمت ، صار الكلام عصيا بيننا فكل كلمة تفتح جرحا وسمر الليالى القديم بات سرابا لا مجال لبلوغه ابدا ، تطول الجلسة ويطول الصمت ، يؤذن المؤذن لصلاة العشاء ينهض جدك فى تكاسل ويمضى فى خطوات بطيئة ، يغيب قليلا ، كان قد ترك صلاة الجماعة منذ زمن ليس بالقصير ، كانت العلل قد اجتاحت البدن وجعلت الطريق اليها عصيا وكان جدك قد اعتزل الناس امدا ، كانت السجادة التى صنعتها يدى من السعف تتمدد وحيدة هناك ، يكبر جدك بصوت قوى لم تنل منه المحن ، كان صوته هو الشىء الوحيد الباقى من الايام الخوالى ، حين يستريح فى الصلاة فى خشوع استدير واغيب فى جوف الدار لاقوم باعداد العشاء ويعم السكون ، كنت اخاف الليل منذ صغرى ، لا احبه ابدا ، وعندما حدث ما حدث اتسعت الهوة بينى وبينه اكثر ، صار الليل وحشا خرافيا ، محرقة احترق فيه وحدى ، الكوابيس ، الوجوه الحزينة ، الاحساس بالذنب بشكل او اخر ، التفكير الذى لا نهاية له ، الصباح البعيد الذى لا يأتى ابدا ، وجهك البرء المنتصب بينى وبين فراشى كالغصة ، كحبال مشنقة بعيدة ، قلت لابيك ذات مرة : (والصغيرة ما ذنبها ؟) نظر اليك طويلا ، كان يرتعش كمن تجتاحه حمى ، ازدرد ريقه بصوت مسموع ، سمعت حشرجة خافتة تخرج كمن يهم بأن يقول شيئا ثم انتصب واقفا ، استدار فى صمت ومضى يترنح دون ان يقول شيئا ، اخذتك فى حضنى ، عيومك البريئة تخترقنى فى تسأؤل ، وانا امسح دموعى بكم ثوبى ، كنت اعرف جيدا حجم عذابه ، اعرف جيدا عمق ما بينه وبين اخيه ، اعر ف جيدا هول الجدار الذى انتصب بينه وبين ابيه وبين وجهك البرىء ،