سِلالُ الضوء
الكاتب : لنا جعفر
سِرحةٌ من ليلٍ دااااكن تلفّعت بسمومٍ مُعتاد في مثل هذا الوقت من السنة , وسماءُ الليلةِ كانت مكشوفة عن لُجةٍ من الأضواءِ المتلاصفة ... أمّا الأشجارُ فكانت مصورة ومرسومة ومدموغة بحرفية عالية الدقة شحيحة البذل ,,,وهناك في سقف العالم كان ثمة قمر يُرسل ضوء متعب ومشوش متراخٍ ووهِن
وانا كنت مؤرقة بإنهاك وممددة أُغالِبُ قهر المساءاتِ الدبقة و أتشاغلُ كما العادة بمراقبة ظِلال الأسِرة وتسّمُعِ هسيس نيران الحقول شبه المنطفئة ..وأصوات شتّى متداخلة متعارضة وغامضة تُنشِدُ في جوقةٍ مهيبة مشهداً جنائزياً بات مكروراً ويومياً...التفتُ بانقباضةٍ هلِعة مُطارِدة بناظريّ طيفاً ظلياً شارداً من جحيم هذه الأمسية المستطيلة ...
عندها بالضبط وقعت عيناي على وجه جدتي .!!..يالضيائها.!.تاملتُها وكأنّي أراها للمرة الأولى....ياربي !! هل كنتُ دوماً أراها؟؟ هل كانت دوماً معنا؟؟ زادتِ السماءُ مِن تلاصُفِها ولمعانها....نهضتُ من مكاني,,,زحفتُ على أربعتي لإدنو منها ..حبوت ...كبوت..كِدتُ أقع عليها ....ألصقتُ بها محبتي ونظرتُها ....وجهُها الأملس ذو السمرة المحببة...(كان الغطاء منحسراً عنه وبدت جدائلها الرمادية الممشطة بعناية وترتيب تعلو وتهبط بتناغم مع إنسانها المتيقظ ...)
فمُها الذي أخضعته إبر أُم بيومي الجائرة لذاك اللون الكابي كأنّما كان ينفرج عن مخبوءٍ جمّ..ومفتضحٍ مهيبْ (وبين المفتضح والمخبوء كانت تنتظر -ربما- منذ الأزل من يعينها على تفتيت السكون)
جبينها الغضْ والخالي بالمُطلق من التجاعيد والتمددات (التي تكرهها الجدات)..... أنفها الصغير الفاتن الذي يُحاكي أنف صغير دب الباندا... ذقنها الذي طبعَ الحُسن بالحُسنِ.......
يالضيائها ثم يالضايائها, وقفت أُصلي في خاطري المأسوروأُحدِّقُ بطمأنينتها ,
يابهية....يابهية....كنتُ أُناديها ...وكانت تنامُ مِلءَ جُفنيها تحتَ الشُعاع المُخاتل لقمرِ تلكَ الأمسيةِ المسهّدةِ والتي لم يحرك فيها النسيم أفرع شتلات الحناء التي كنا نرقدُ تحتها
كنتُ اتقلبُ قرب وجهِها الطيب وأحتمي بها وأحتضنُ أمانَها حينما سطع الضوء الدُريّ بتمامه عليها....ورأيت شقوق البهية لحظتها !!....ستة شقوق طوليةٌ تقتسمُ وجهَها البدر ,
تمعّنتُ في شقوقها ...دنوتُ...تفرستُ ....تلمّست شقوقها مواسية ومطيبة جراحها...
ليتني كنتُ هناك لإدرء عنك يابهية ....ماذا فعلوا بك؟؟ ماذا ....؟؟؟؟؟ ماذا؟؟؟؟
كنتُ أتلمّس نُدبات خطوط الطول تلك بعُري روحي ..وأصعُدُ عليها درجاً فقهراً فخنجراً..هل نالت شهوة التمزيق من وضوح روحك ؟؟........هل نالت الأوشامُ منك ياصفية ؟؟
كأنّما أيقظها انكساري كأنّما تصعّد اليها مزماري ....تمتطَّتْ ..وفتحت عينيها على اتِّساعهما .......لم تستجب لرهافتي لكنّها نظرتني بمحبة طاغية و أخذت وجهي بيديها السهلتين كالماء....حدّدت ملامحه بلمسات مربتة حانية .....اطالت تفرسي ....ثم بتصميم يناقض تلك الانأة والسماحة ...نزعت حزن عينيها سريعاً و طوقتني بعزم سحبتني اليها ودفعتني من مطاردة صوري وطيوفي السرابية...
-/ جدة ؟؟ماذا تفعلين ...؟؟؟ أين نذهب ؟؟
-/ جدة ؟؟ الوقت ريح أين نذهب؟؟...خبريني كيف ننجو ؟؟ جددددددددددة ؟؟؟
لم ترد عليّ ...دفعتني مزيداً إلى أن إلتصقتُ بها ... إندغمتُ فيها وبشكلٍ ما أحسستُ بطعمها كُنتُ أظنهُ مالحاً في البدء , لكن عندما وعيته...كان يُشابه بُرادات الضوء المُحلاة...
فورما هصرتني أليها نفذت لها من بين تلك الشلوخ...ياللغرابة....خطوط الطول منافذ ؟؟؟ تدحرجتُ إليها...تلقتني بفيضٍ من الأرتياح وأضاءتْ عتمة ظنها بفرح........
وشلعَ برق وجهها بضراوة لمرآي أخيراً وأنا أُحقق هذا القُرب الفريد..تهللتْ بالبشارةِ أساريرُها....أدنتني ...قبلتني ثُمّ أشارتْ لي أن صمتاً يافتاتي..فصمتُ خشوعاً وتهيبا ,
دخلتْ فتبعتُها مبهورةً مأخوذة الخطوِ والخاطر جُستُ معها ملياً في مراقيها ثُم تأبطتني وخرجتْ وأعدةً أياي بنزهةٍ في حدائق الوجود,,,كنتُ أسير فيها ومعها واليها ....وعند مُنحنى صغير أمرتني بإيماءةٍ يسيرةٍ أنْ أسكُنْ ...فوراً سكنتُ..وكنت أتلو اسفاراً لتبقيني على مرائي التحديق والشهادة ...بخفة خاطفة أخرجتْ جدتي بساط لا-لوني لكنه لدِن وثمين....سحبتني لنجلس عليه ...
وعندما جلسنا مدّت يدها بتؤدة ناحية صدرها وأخرجت عُلبة سجائرها الثمينة والمُذهبة الحواف ذات الرائحة المميزة والمنقوش عليها وجه قديسة متضرعة , تناولت بخفة من تلك العُلبة سيجارة ثُمّ أشعلتْها وراحت تنظر ناحيتي وتنفث دُخان سجائرها بتلذذٍ وإغواء ....كانت تستفز فتوري وريبتي.. ثُمّ ابتسمت لي بعدها بدلال أنثى عشرينية مغناجة...وأسترسلت في نظرة متمددة ثم وبحركة فجائية مدّت لي يدها بسيجارة ممشوقة القوام بيضاء فارعة وعطرة جداً
أشعلتها لي وجلست برضا ترقُب شهقاتي وابتلاعي المرتبك للخيوط الساحرة والملتوية....
ثم بغتة وبلا مقدمة انثااااالت جدتي كجندلٍ يرغي ..............................................
دغدغتني بحكاياها الوثيرة عن أحبتها العابرين ...حكت لي عنّهم وعن براري عبثها في حدائق الوجود السريّة...حدثتني عن شيوخٍ وملاحدةٍ و تُجارٍ وسُمّارٍ ومؤرخين ومستكشفين وملاّحين وثُوارٍ وسَحرةٍ ورَسامينَ وأفنديةٍ وعُمّالٍ وشُعراءَ وحِرفيين وروائيين ,لم تُخفي عني الصورَ المُشمّعَة والمُشفرة والمُغلفة بعنايةٍ داخِل أغوارٍ متراصةٍ من ذاكراتِ النور ....خبرتني عنِ الأرصفةِ وسواحلِ مُدنِ التاريخ......... حكتْ لي عن زُنجياتْ وماشِطاتْ وقديساتْ وراقِصاتْ وفاتناتْ وبائعات هوىً ومُبشِراتْ ومُقاتلِاتْ ومُغنياتْ ومُدرِساتْ إفتتحنّ سير الفصولِ والثباتْ .....سمّتهُنّ صويحباتِ الفجر....حفظت عن ظهر قلب كل خطراتِهنّ واسمائهنّ وحيواتهنّ وحتى أسماء أحبائهنّ والشوارِع اللاتي سكنّها وحتى أسماء حيوانتهن الأليفة ....
وكنتُ كُلّما أفيقُ تغمُرُني الظلالُ بانفتاحِ مدى الرؤى مزيدا....فأعودُ وأغوص وأجوس ...وفي تلكَ الدوائر الصاعدةُ رأيتُ فيما رايت سجائرها الأنيقة وعطرها المحرض والحاض وشهقات كل من مروا بها وترنُح خطوهم الخارج من ثنايا عصبها المصهور....ثم رأيتُ فيما رأيت عصيان دفاترها الملونةِ ببقع الضوء المنفلتة والعصيةُ على الحكي...وتنوراتها الصاعدةُ صوبَ خيوطِ الفجر مُنشدةً مزيداً من الفوانيس ومهرجانات الضوء...
هذا الجسد روحه إذن حية وكانت تُماري شُحّ الحياة ؟؟
كان الوقتُ ريحٌ والمكان عصفٌ وعينُ الرقيبِ إنكسارْ
حوّمت خلايا الخروج في مدارات تلك الليلة ذات الكشوف الصاعقة والفاتنة في آن حتى كدت أن أجزم أن الوضوح سيدلق يواقيته الفارة وبُسلِمُ سديمه اليئوس ...
..قالت لي جدتي وهي تُشذب إنبهاري أن الرب لحظتها كان راضياً وشاسعاً وهيكله يضوعُ باللُجج وكان ينحتُ تقاسيم الشموس والمطر وعدو الغزلان.......وكان يهم بتخليق الخلود..
كان الوجود مرشحاً كي يغدو بنعومة الزنابق ويُسر وبساطة الماءِ والطين يابنيتي....وبشفافية نُدف النور
لكن كي يبقى التوتر والتواتر..!!!!!!!تسلل أحدهم نحو خوابي المملكة العلوية وأعاد دلق أحبار المتن السريّ الذي حذرنا مِنهُ الحكيم........
كانت الجدة تتحدث وتُشير لأعلى وعندما تبِعت ماتشير اليه يدها شاهدت صبياناً بأعداد مهولة يحتلون المدى , الواحد منهم بحجم كنكة القهوة ...كانوا يلبسون قلنسوات رمادية وارجلهم مثبتة على الأثير وبأيديهم فراشي طِلاء وكانو منهمكين في طلاء سقف الوجود بذات حبر المتون الذي دلقه كبيرهم ...وكان الدّهان المُحرِض يتّنقل بأجنحته حاثاً الصبية على الإسراع
والبذل ....وكان يُلقمهم بين الفينة والأُخرى عصارة شاحبة اللون .
عندها وبيسر غير مُستوعبْ هشّت الجدة توقعها المنير, وأعتدلت واقفة ثم رنت لي بنظرة فهمت منها أن موعد الجولة انقضى , تقدمتني شبه مهرولة ....كنتُ أحاول اللحاق بها وجرّها من ثوبها مستحثة أياها على البقاء والمواصلة .....
-/ لالالالالالا لايمكنك أن تصمتي هنا ..جدة أكملي....انتظري.....إبقي معي ...جدة...جدة..جددددة
-/لاتصمتي رجاء....اكملي ياجدة...كل شئ يعتمد عليك ....لاتذهبي الان...رجاء..
انتظرت امسيات مريرة وخائية كي احررك وأحررني لاسمع وأعي , لاتتركيني رجااااء...
جدة ؟؟؟ جدة؟؟؟؟............................
لحظت ان وقع الروائح بدء يخفُت...وكان هنالك ثمة أزيز يشدك للحزن شدا....
ضوء الفوانيس صار يبهت ويتضاءل من غزيرٍ مُنهال الى شتيتٍ ثم عدمْ...
فقد المكان سحره الآن...الضوء الفضي المتدفق شحُبت أنفاسهُ...إنقطعت شقشقة الحسون...وكان هنالك طعم حديديّ قاسٍ جدا سابح في الجنبات المخذولة...
الجدة انسلّت من حدائقها وهي تتلفّتُ بإرتعاد . وأنا أعدو في إثرها ممسكة بثوبها كيتيمٍ في يوم عيد....عادتِ الجدةُ مرتعبةً لمهجعها.....إنسربت عميقاً من شقوقها وعادت لتلك العتمة الصموتة ثُمّ وقفت خلف الشقوق وهي ممسكة بها وتحاول إخراج رأسها لتخبر مصيري....جسدها الذي كان يكتسي منذ دقائق ليونة وطلاقة ...عاد لحالة من التجعّد والتراص المفرط....زهو عينيها عاد وخبأ...طلقُ مُحيّاها فَتَرَ جزله.......إنسحبت عميقاً تجاه قضبانها.....سحبت معها كل الألوان وسِلال الضوء الكهرمانية ....., ولجت برزخاً أليفاً وشاتياً ... جلست القُرفصاء خلف قضبانها الشقوق...كانت تجلس بلا حزن وبلامشقة....جلسة من أعتاد الترقب ونسج السوانح ورتق الفواصل ...
جلستْ تُحدِّقُ بالوجود وهو يستعيد سياجه الأنيق وأحباره الداكنة وسلطته الدامغة ,
كان وجهها خالياً من التوقع والتعابير وكانو هنالك يجهزون مشاجب لكل الجدات المنتظرات
وفيما انا أفرك عينيّ وأنسلُ في خفوت ...أحسستُ بالهواء بيني وبينها يضطرب ويصير محموماً , رحلتي للخارج أخذت مني حزم ثباتي كلها وعبرتُ من على الكريستالات المهشمة التي كانت تفترش جسري أليها ...لمعة عينيها وحدها هي ما أكدّ لي أنّني لم اكن أحلم .