عرض مشاركة واحدة
قديم 17-10-2021, 08:22 PM   #[11]
عايد عبد الحفيظ
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

من صفحة الصديق العزيز الأستاذ عوض جبريل(غارسيا)

بين جدارية محمود درويش وديوان غيداء أبو صالح
الطوفان الآخر ومحاولة التصالح مع الموت أو هزيمته

عزالدين ميرغني

في المقابر يوجد آخرون فقط
مثل ألماني

يقول الفلاسفة والكتاب , إن الموت هو المكون الجوهري للإنسان . فهو بوصفه ذاتا واعية ومفكرة , فالحيوان لا يعرف الموت الا ساعة الخطر . فوحده الإنسان هو الذي يدرك حقيقة الموت وقدومه المؤكد . وبهذا يستطيع استحضاره في وعيه . فهو الكائن الوحيد الذي يعلم بان عمره محدودا , وأن الموت سيأتي عاجلا أم آجلا . وطالما أن الموت ليس هو الحدث الذي يأتي في نهاية القصة , بل هو الذي يبدأها وينميها . فهو إذا هو وجود كلي , وهو أيضا قوام الوعي لأي ذات . لذلك فالإنسان لا يمكن أن يعي ذاته إلا إذا وعي موته . ويقول الفلاسفة , والمتصوفة , بأن وعي الإنسان بالموت كلما كان عميقا , وذا حضور كلي , فإن الذات لا تجد أمامها سوي أن تسابق موتها الذي ينتظرها . . والحديث الشريف يقول ( موتوا قبل أن تموتوا ) أي دعوة ليكون الوعي به متيقظا وحاضرا . ومن الشعراء العرب الذين تحدثوا عن الموت بعمق وحاولوا هزيمته هو الشاعر محمود درويش والذي كتب ملحمته ( الجدارية ) , كأنما أراد بأن يقول بأن الذات الشاعرة تهزم الموت وأن الشعر العظيم يتحداه بخلوده . فهو قد ذاق الموت , ووجده عاديا , بل يريد أن يحتفل به , لأنه يحتفل بالحياة دائما , وكما يقول الدكتور عبد السلام المساوي فان جدارية محمود درويش محاولة لمواجهة الموت بسلاح الذاكرة الحية والمتقدة التي تختزن قدرا وفيرا من الأحداث والرموز الثقافية . وفعلا فان محمود درويش , يقدم عبر هذه الملحمة اشهارا للكتابة بكل ما تختزنه من حدود معرفية وحدود خيالية في وجه الموت الذي يتربص بالجسد . وهو بعبارة أخري يفضح عري الموت وجبنه بالإشارة الي كونه لا يستطيع أن ينال من ضحيته سوي الأعضاء القابلة للفناء , ولكنه لا يستطع ان يبقي في ملكوت الجمال الخالد أبدا
هزمتك يا موت الفنون جميعها
يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلة المصري مقبرة الفراعنة
لقد حاول أن يجعل من الموت نفسه ظاهرة جمالية . من خلال تأسيس الذات الشعرية . ومحمود درويش بجداريته يحاول أن يحتمي بها وفيها يستشهد بأسلافه أمثال أمرؤ القيس , وطرفة بن العبد , والمعري , والمتنبئ . وهو ينحاز الي صفهم , وهم قد قهروا الموت بخلود ذاتهم الشعرية . التي تسمو علي المحو والفناء , وما احتمائه بالجدار الا نوعا من المحاكاة لطقوس الأسلاف الذين أدركوا بالفطرة , بأن الجسد مهما بقي وعمر , فانه سينتهي ويفني , ويبقي ما يخطه الانسان من شعر جميل في الجدران مثل المعلقات التي ما تزال باقية وخالدة في الوجدان .
والشاعرة السودانية الراحلة غيداء أبو صالح , قد كتبت ديوانا كاملا عن الموت , ( الطوفان الأخير ) , وهي تحاول فيه أن تتلمس الطريق الي الأبدية , وبالفناء الروحي , حتي اذا جاء الموت لم يجد ما يأخذه فقد ماتت قبل أن تموت . فهي في شعرها تكتب ذاتا فانية , ذاتا عرفت الموت قبل أن يأتي لذلك فهي تكتبه بمعرفة المتذوق العارف . فقد مات جسدها فلن يجد الموت شيئا ليأخذه , وهي هزيمة له لأنه لا يستطع ان يسلب الروح , فهو عندها حتمي لأنه حقيقة ثابتة ولذلك تقول في شعرها بأنه مؤجل في الدم . ( لا كشريان مهدور الدفق , يبتهل لموتك المؤجل في دمي . . )
ان الوعي بالموت هو تجربة حية في شعرها وتريد أن نقرأ معها كتاب الموت , قراءة مبكرة , أي الوعي المبكر بالموت وهذه القراءة قراءة خبيرة به , كتبت بمرجعية النفس الذائقة والمجربة , وبذلك تكون القراءة قوية وصادقة . وهي قراءة ليس لحواس الجسد الفانية دورا فيها . وانما قراءة بجسد ميت وروح متقدة حية , ( كانت الشاعرة مريضة بالسرطان وتنتظر الموت في كل لحظة ) . وهذا ما يؤكد أصالة التجربة وصدقها ( صدق التجربة الواقعية وليست التجربة المتخيلة ) . وهذه القراءة الحية لكتاب الموت تبدأها بقراءة تنبيهية : -
قرص الشمس مال
ليعانق البحر جبهة المساء
والنورسة المشرعة الأجنحة أعلنت الرحيل
من قال يشبهك الخريف
بل الربيع
بل الشتاء
كفوهة رغبتي
التي تتفجر بذاكرة منهكة
أنت الفصول
فهي بوعيها للموت تدرك أن روحها لا يسعها الزمان ولا المكان , فروحها جامعة للفصول جميعها . أي الفناء في الزمان والمكان . والشاعرة ( غيداء ) , تتحدث عن نفسها بضمير المخاطب , كأنها تخاطب فعلا روحها التي أصبحت مستقلة عن جسدها الذي مات قبل أن تموت . وقراءتها الثانية , هي القراءة التائهة في كتاب الموت . وهي قراءة التيه والنسيان , أي نسيان الموت أو محاولة تناسيه , هذا الموت الموجود حقيقة في المدن الزائفة التي لا تعي بوجوده ولا تعرف حقيقته . فالناس نيام في المدن , لعناتهم مخفية ومستورة لذلك لا يرونها : -
هذا الغبار الذي يملأ جوف السماء
والوجوه المصبوغة التي تسكن المدينة
ستغرق في صوتها المبحوح
وامرأة تائهة
كانت تتبع آثار الرمل
في عينيها تاريخ مدن
تغرق . .
ونصف قمر يفند مواعيدها الغامضة
والقراءة الثالثة لكتاب الموت , هي القراءة المتأنية , وهي تحاول بها أن تكون قربانا للآخرين , طالما هي أساسا ستموت . وهي قراءة معايشة , وقراءة مصالحة متماهية مع القدر . مصالحة تحاول أن تقدم الخلاص .
أقدم نفسي قربان دمع . .
يغسل وجه الأرض . .
ثم تأتي القراءة الرابعة لكتاب الموت , فهي قراءة خوف عن معرفة بالموت , والخوف يأتي من النهاية المجهولة فتقول :-
قناديل القدر اعتقلت أطراف روحي
ثمة غيم
يركض كالقبلة في لغتي
ولا صوت . .
ولا لون يشابهه . .
هل يبقي اللؤلؤ مختبئا ؟
وهنا تعني الراحلة غيداء , بأن اللؤلؤ يجب أن يخرج , وأن يري الناس جماله وروعته . والقراءة الخامسة هي القراءة , المتأخرة جدا , بحيث أن غروب الشمس يمثل المعادل الموضوعي للحظة النهاية الابدية : -
مال قرص الشمس غربا
في مساحات الجنوب
واقترب السنونو من حرائقنا قليلا
ودندن بلحن يشي بالضوء المهشم
وتناثر حول أقدامنا
فهذا الموت يحذرنا ولكننا لا ننتبه , ثم تأتي القراءة الخاتمة , وهي قراءة النبوءة والدنو والاقتراب , وتعني بها نبوءة الرحيل . فالموت علي الأبواب , ولكنه لا يخبر بميعاده , ولكنها بحواسها المتيقظة الواعية تشم رائحته وتسمع وقع خطواته , وهي رائحة موجودة ودائمة , ولكن ليست متاحة من يملك مثلها حواسا قوية :-
تلك الرائحة
الآتية من النشيد
الذي تسكنه علي غير موعد
تملأ روحي
تلك الرائحة إيقاع فضاء
هذه الرائحة موجودة فينا ومنذ طلقة الميلاد الأولي , ولكننا لا نسمعها , لأننا انتباهنا ليس قويا , أو لا نريد ذلك . ولكن الشاعرة واعية بها لان وعيها بالموت اقوي منا . فكتابتها كتابة التجربة الاصيلة وليست المقلدة . فهي تكتب الموت الخاص الذي تعرفه , وليس الموت العام الذي يعرفه الآخرون معرفة عامة . فلذلك فديوانها يمثل الصدق الواقعي والذي فرض علي الشكل الفني ان يوازيه ويحمله ويتحمله . فكتبت سيرتها الذاتية مع الموت , وتماهيها مع الألم وكأنها تغازله :-
من قال اني ما حككت القلب
ثم من وهج التراتيل اشتعلت
أحتاج لونك كي أفني
أحتاج البكاء لكي أستريح علي ضفاف الدمع
وهي بذلك تكتب جماليات الموت وروعة الألم الذي يطهر ولا يعذب . فكانت مثل الآخرين ولأنها انسانة لا تستطيع الخروج من هذه الدائرة فهي تحتاج للبكاء لكي تحزن وتنوح علها تستريح , علي ضفاف دموعها دون أن تغرق فيها . فهي لا تريد ان تموت خوفا من الموت لكي لا يشمت عليها . لذلك فهي تريد ان تسابقه , فان لم تستطع , فهي تريد ان تصاحبه , وان تحبه وتغازله , وحب الموت هو أكبر هزيمة له : -
أحتاج لهبك فاخترقني
كي أمد بنفسج القبلات علي معابر الأشياء
وأغوص حتي الماء عاصفة في خطوها أزهر
في قلبها نهر
فراشة بيضاء علي ضياء
فهنا لا تحتاج الي لهب لتحترق , وانما لتتطهر استعدادا لملاقاة حبيبها الموت . تريد لها أن يخترقها فهي لا تخاف منه , فالحبيب لا يُخاف منه , فهي تمد له بنفسج القبلات , وتغوص , فتتحول هي نفسها الي ماء . وعاصفة تزهر خطواتها , وتتحول الي فراشة , بيضاء , والي ضياء , والي عصفورة خجولة تطير حرة , بدون بوصلة , والحزن عندها يتحول الي ينبوع حكايات ممتعة , وليست أحزانا سوداوية . فهي تغني له , ثم تصمت , لكي يستوعب وعيها له .
وفي محاولتها لاستباق الموت ومن ثم الوعي به , فهي تحاول ان تتخطي رغباتها الجسدية لتصبح روحا صرفة , تتحدث نيابة عنها , وهي مطمئنة لان الموت لا يهزم الروح لأنها خالدة . وهي التي تهزمه , ولكنها لا تريد له ان ينكسر وانما تريد أن تحوله الي كائنا حيا , يثرثر معها , ويكتب معها القصائد , لكي تقرأها الغيوم , فتصبح كتابا , خالدا , هذا الخلود الذي هو مبتغاها وغايتها السامية , بان تطرق ابواب الأزل , وتصبح ريحا تغيب وتأتي , ريحا لا تنقطع أبدا , وتصبح ليلة , وزخة مطر , لا تنقطع , وتصبح نورا , فالنور طاقة لا تفني , وتصبح بنفسجا , والبنفسج موجود بوجود النور والضوء . والشاعرة تتمني لو توقف الزمن وهي في طريقها الي الأبدية , ( أتوقف في السبت كأنه أحد متأخر ) . تحلم بانها تمتلك جناحين , تطير بهما بعيدا كعصفورة تسابق الريح , لكي تدق أبواب الخلود والأبدية . وفي سيرها , تغني , تتلو صلواتها , تنثر نبوءتها , تقطن في جزر اللاوعي .
والشاعرة تستخدم تقنية الحلم و وتستجير به , من الرمضاء الأرضية و ومن شقاء الجسد , ومن الحفي والعري و لكي تسمو روحا شفافة محلقة طائرة . وبهذا الحلم يمتلئ شعرها بالأمل الروحي , وليس بالحزن السوداوي . فالحزن مع الألم يطهرها , وتحلم بأجنحة وشمس في حجم القلب , وتستكين داخل محارة , لتعود الي زمن البراءة الأولي , وأن تلمس خمر الأشياء الأولي مرتحلة نحو البرق , صاعدة في شفة الأمطار , ممسكة بيدها الغمام , مهرة جامحة لا يروضها الألم , داخل خيمة متصوفة , ترتل أناشيد الوجد والصفاء , تدوس وتطأ الابد دون عناء وكبد . وبهذا تدخل في ملكوت العشق . وهذه المهرة الجامحة حتما ستشرب من نهر الغاب وستترك بحوافرها ذكري مرسومة علي كل حجر ومدر , ذكري لا تغيب أبدا . وحتي بعد رحيلها تتمني أن تلبس العصافير وجهها , وأن تكون يسوعا للظل بعد أن تصلب . يحملها الماء نظيفة طاهرة , تغني للنار لكي تتحول الي نور يضيئ ولا يحرق :-
كفي سطوه للريح حتي أقايض
عمري بشعاع عينيك , وأرحل
نحو أجنحة لها في الطور نور
واصوغ من أسطورة التكوين
بعض ملامحي . .
ولو خيرت لإعادة ملامح التكوين الأولي , فهي تختار أن تصبح من طين , ومن وهج النجوم , وهسيس الشجر في الغابات , وأن تشبه رائحة الورد , والأغنيات المبهمة , فهي تريد الذي لم يكن بعد , وتبحث عن الذي لا يتكرر أبدا , وكائنا لا يفني , وأن تكون خليطا من الماء والطين .
وفي أغلب قصائدها , تؤكد الراحلة غيداء أبو صالح , بأنها موجودة , تتسامي بآلامها , وهي في الطريق لكي تصبح روحا , وميلادا جديدا , فإنها تكتب القصيدة النبوة التي تبشر بالذي سيكون . .
تعلن خشوعها بين يدي البحر
وتهوي قناديلها علي قارعة القوافي
وتطير بأجنحة مكونة من < لون اللوز > ولون البنفسج , وإذا تململ جسدها فهي سترضيه بأن تُهده < سيرا للشمس > وجيادها دائما جانحة , وليست كسولة خامدة . تمتطيها , وتصير فارسة وفي يدها سيفا , تستعد به للآتي الذي لا مفر منه , وبه تحارب الخوف والانهزام .
يقول الروائي البرازيلي ( باولو كويلو ) , بأن السحرة في أمريكا اللاتينية , يقولون بعد تجارب خبروها بأن المحارب الذي تضطرب أحواله , يشعر بالموت , وبتحرر روحه , وانطلاق حواسه , فيصير أكثر قوة , ومثل أنوار العربة التي تقودك , مهما كانت الطرق متعرجة . وبهذا تقول الشاعرة .
فوضي حواسك
تصير أجنحة
تحلق صوبك
وقلبي معلق
يقرع أجراس صلواتي
وهنا تستخدم تركيز الحواس ’ لتحلق بأجنحتها , صوب المطلق المجهول , بصلوات تأتي من داخلها .
وغيداء أبو صالح , بوعيها الذاتي , تحفز الآخرين لاستباق الموت , قائلة ( كي ما لا يمكن أن أكونه ) فهذا هو الخلاص والموت قبل الموت . . تحاول أن يسري في جسدها , ضوء وأن تتعاقب الأمواج في قلبها , وأن تزرع المسافة والمدي صلاة علي شفتيها . وأن تفتعل للأشياء هون , وتدق بجسدها أبواب الأزل والخلود . وتتحول الي بشارة كما البرق بشارة المطر . ففي قصيدة <اختراق > تستفز الآخرين ليستبقوا الموت مثلها , وهي تدعوهم لينفلتوا من ليل الحزن , ومن توتره , ومن حرقته الدفينة . تناشدهم بكلمات رائعة , وهي تستخدم المفردة القرآنية < كلا لو تحزنون > , أي لو أنكم تتذوقون مثلي الوجع الأنيق لذة . ولو تتوسدون الآهات , وكل واحد يا ليته يفتش في حقائبه عن الأسئلة المخبأة التي تبحث عن الجواب :
وكلا لو تحزنون
هذا الوجع المتأنق ساكن أروقة الروح
متوسداً آهاتنا
وفي رحم حقائبنا التي كانت خاوية
تلاحقت الأسئلة
وفاضت بما لا ينبغي
وانت تطوق صمتك لترتمي في غيبوبة الاشتهاء
وتنسي الأذرع التي تفتش جيوبك بحثا
نحن خطيئة ..
< وكلا لو تعلمون > , وهكذا تدعو الآخرين ليكونوا بشارة مطر , وتتحول النفس الي كأس حليب للفقراء , والي وفاء , وأن يتحول الليل عندهم الي الفال الطالق , بدلا من الظلم الحالك . <وكلا لو تحلمون > فالحلم يحاول أن يصور ويجسد مناطق الابد محاولا الدخول فيها , وهو أيضا دعوة لايماض الروح , وزنابق القلب تمنح جواز مرور للعينين . والقلب يهدي للريح , بعضا من الهواجس . فالدعوة للحلم هي محاولة للانعتاق من سحاب الاشياء وضيق البصر , فالحرف يقيدك دائما , جاهلا الشعور بتفاصيل الاشياء المرهفة والحساسة . التي تري ما لا يُري , وتكتب ما لا يطاق ويحتمل . وهي تبلغ قمة الأندماج مع الموت , لدرجة الاشتياق وتقول : -
كلي اشتياق
أفق إني أكاد أنفي من دمي
إني أراق . . أشتاق
أشتاق نفحك بإسمي
وأسأل الحزن الفراق
والشاعرة في سبيل ما يمكن أن تكونه , لا تلتفت للآخر , فالمخاطب دائما هو المطلق . فالبشر فانون مثلها . تخاطب الشاعرة دائما البحر , والموج , والغيم , والمطر , والليل , والريح , لأنها الباقية ببقاء الحياة . ( يا بحر قم حرك , تحرك ) . فالبحر هو الحبيب الاول والاخير . يحاورها وتحاوره فهما صنوان . وقد وعدها البحر بقطرة منه بعده لن تظمأ أبدا :-
تكونين أين ما أكون
تشبهين اخضراري
تصيرين عند الموجة الأولي
صارخة جامحة
كمهرة لم يروضها الألم
تركضين تعانقيني لأكون
قد لا أكون , أن لا أكون
فموجي يعاندني . .
فهل كانت الراحلة غيداء تصارع الموت ؟ أم تصارع وتتطهر بالألم ؟ وهي كبشر قطعا تخاف من الموت , رغم محاولتها هزيمته , وذلك بالخروج من الزمان والمكان .
البرق القادم من عينيك
يقرع أجراس مدينتي
وأنت متسربل
في شوق الخوف
رنينك يصعد الدم في الجماجم
تخاف منه لأنه مجهول , وخفي , وهي تحتاج الي حضن دافئ من خوفها نفسه . فخوفها الأكبر هو خوفها نفسه . تريد للسيل أن يبعد منها الخوف , وأن يسكنها وحده آمنة مطمئنة وأن يتحقق فعلا وليس حلما , تراه جسدا مشظي لاجئا في دمها :-
تمهل قليلا في الحكاية لأراك
جسدا مشظي بوعدي
موغلا في التماس الشظايا
لاجئا كالدم في بوح شريان
وإذا لم تكن الرؤية ممكنة , بثقب الريح
تلالا متدفق الروح
ونسيم يقتنص حرية بوح الموج
أو جسد يمتطي حلقة الزلزلة
فهي تريده مجسدا , وليس مجردا . مستجيرة من الخوف من الموت , بالموت نفسه . لتأمن جانبه عله يستحي من نفسه .
دثرني يا كسرة وعدي . .
من رجفة خوفي . . واسكني وحدك
من هامة رأسي حتي عظمي . .
لأن المسكينة ما تزال صبية , في قلبها مدارات سحيقة , وخيط رقيق غارق في العتمة , أرهقه السؤال . . وتعترف بخوفها من الموت : -
من قال إني ما انكسرت
أحتاج البكاء لأستريح
علي ضفاف الدمع
وعندما تتعبها الرؤية , تتعلق كفيها بالريح , وبترنيمة ناي حزين . وبعد ذلك تعود للحقيقة . وتلجأ للعرافة مستسلمة لها
قلت يا عرافة جئتك
قالت هل أعياك موتك ؟
قلت . . لا
ولكن أعياها الحلم بالموت , وأعياها البحث عن الأبد , وعن الخلود والأزل , والدخول في اللامكانواللازمن , لأنها بشر مسجونة بالجسد , والجسد مسجون في الألم ومكبل بالخوف فلجأت للعرافة علها تطمئنها بالخلاص . والعرافة تقول لها :
أنت محمولة علي رمح ناصيته من نار
وقامته كقامة نخلة فارعة
يا ملح دمعك المسبوق بكافة الابعاد
والمسكينة , تستسلم , لأن الرؤية أتعبتها , والعرافة تخاطب النهر ليغسلها بالنور , ليطهر قلبها , وينثر خطاها , ويغسل وجهها , وعلي عنقها يطلق تمائما بيضاء , فالتميمة هي حرزا من الخوف , وتحاول أخيرا أن تجاوب علي أسئلة خانتها , وأن تؤنب نفسها , وتقيم لروحها قداسا , دون أن يفوتها الركوض والركوع . لأنها لا تدري كيف تكون النهاية؟
والشاعرة السودانية الراحلة غيداء , ككل شعراء الحداثة , لا تعتمد علي وحدة البيت , كما في الشعر التقليدي , فالقصيدة عندها كتلة واحدة , في المضمون والمعني . بل ديوانها كله يحمل مضمونا وثيمة واحدة , لأنها قد قفلت الباب عن كل ما هو خارج ذاتها , ولكنها تداعت بحرية , وبلغة متدفقة سلسة وعذبة , لها موسيقاها الداخلية رغم تحررها من الوزن وموسيقي القافية . فشكل القصيدة قد خضع تماما الي تجربتها الذاتية المتفردة , التي تحولت الي أفق واقعي , ( عذاب انتظار الموت ) , واصبحت ليست شاعرة تكتب أحاسيسها فقط , ولكنها تحولت الي بطلة تسرد شعرا تجربتها وذاتها البطولية التي تتحدي المرض , وتنتظر الموت ولا تخافه . وبديلها الموضوعي هو استبدال شعورها بدنو الموت , بحالة خارجية , تنوب مكانه في بسط المعني , وهذا البديل الموضوعي كان يناسب أحاسيسها كفتاة له مفرداتها الرومانسية حتي في أحلك اللحظات حزنا وقتامة , ويأسا . فنصوصها مشبعة بزرقة البحر واتساعه , ورائحة المطر ونقائها , وكبرياء السحاب , وصفاء البنفسج .
ان حركة القصيدة , رغم الحزن , ورغم كتمان الألم , تحس بموسيقيتها , وخفتها علي السمع , وتلمس قبولها في الوجدان , نابضة حية , وبرغم كل أحزانها , فهي لا تصرخ , او تنوح وتشتكي , ولا تستجدي العاطفة , كما فعل الشاعر أمل دنقل في لحظاته الأخيرة , في أوراق الغرفة 8. وانما كانت تتسامي بآلامها , وهي في قمة هذه الآلام كانت تلتقط من الحياة حولها بعض جمالياتها . وكانت قادرة علي تأنيث لغتها , وأنسنتها , كأنما تضع زهورا علي حروفها بدلا من قبرها , وتريد للمتلقي أن يفعل ذلك . وقد فعلت أنا ذلك , فلها التحية مع الخالدين .

تحية لأستاذنا الناقد د. عزالدين ميرغني
مقال سابق في الملحق الثقافي بالرأي العام..
لأهمية المقال والإضاءة الهامة لزم إعادته....
ونحن على مشارف الذكرى الثالثة عشر
لرحيلها الذي يصادف التاسع عشر من أكتوبر..



التوقيع: وانا . . من انا يا سيدى
سوى
واحد من جنودك يا سيدى
خبزه . .خبز ضيق
ماؤه . . بل ريق
والممات بعينيه . . كالمولد
واحد من جنودك يا . . سيدى
يركع الان ينشد جوهرة
تتخبأ فى الوحل
او قمرا فى البحيرات
او فرسا فى الغمام
امل دنقل
عايد عبد الحفيظ غير متصل   رد مع اقتباس