عرض مشاركة واحدة
قديم 23-12-2006, 04:51 AM   #[102]
عجب الفيا
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

أربعون عاماً على الغابة والصحراء..-2-

محمد المكي ابراهيم


في كل الأحوال ليس ذلك مبحثا مهما والأهم من ذلك واشباهه هو تلك الاشارات التي قدمتها الحركة عن دور الاثنية في تحديد الانتماء فانه من حقائق الدنيا ان الفرز بين الجماعات يتم على ابسط اشكال الانتماء وخاصة في الظروف الاستثنائية كظروف المواجهات والصدام وكثيرا ما يحدث الاصطفاف على اساس القبيلة او العنصر او لون البشرة ويتمايز الناس في الأحوال القصوى بألوان اجسادهم وسحنهم واشكالهم. ولكن السودانيين ذوي الأصول العربية لم يروا في الاثنية حائلا يحول دون اصطفافهم مع الجانب العربي والتماهي التام بذلك الجانب ولهم في ذلك تبريرات كثيرة كما لهم بعض العذر.

يقول البعض ان ذلك التماهي سببه نوع من عمى اللون الذي فرضه على عرب السودان فرط رغبتهم في الانتماء الى السلالات العربية. وهو تعبير مشحون بقدر من السخرية والاتهام ولكن حقيقة الأمر أن عرب السودان فقدوا ذاكرة اللون، ففي المناخ الأفريقي الذي اقتحموه كانوا وحدهم بمواجهة كتلة لونية تتشكل بكاملها من الالوان السوداء فأضحى الآخر بنظرهم هو الأسود و(النحن) هو ما ليس بأسود. وفي حظيرة نفي السواد هذه أدخلوا كل الظلال الممكنة للسواد مثل (الخضرة) والسمرة والزرقة وكلها مسميات لدرجات من السواد او بالأحرى هي اشكال متنوعة من نفي السواد. إلا أن الدنيا لاتثبت على حال والذين قدموا الى السودان بإهاب عربي فاتح السمرة انتجوا عن طريق اختلاطهم بأهل البلاد القدماء اجيالا من المولدين اخذوا عنهم درجات متناقصة من لون الاهاب وذلك أمر ملاحظ من جيل الى جيل حتى في اطار العائلة الواحدة فالجد في غالب الأحوال هو الافتح لونا من الحفيد الا اذا دخلت على العائلة دماء جديدة او اذا لعبت الكروموزمات الموروثة لعبتها الاعتباطية وغيرت من ملامح الحفيد.

يحضرني في هذا الصدد مشهد من رواية (الحنق) للروائي السوداني شوقي بدري (صادرة عام 1970) حيث تحدث ملاسنة غاضبة بين شيخ سوداني وعربي من الشام (خواجة في نظر السوداني) إذ يقول السوداني:
- يبدو أنك خواجا قليل أدب.يجب أن تعرف مع من تتكلم .نحن أسياد البلد وأسيادك أنت أيها الخواجا القذر.

فاستشاط الخواجا غضبا وقال ردا على كلامه الأخير:

- أنا عربي ابن عربي ولست عبدا مثلك يا عبد.

وهنا هجم عم خليفة بقامته القصيرة وجسمه الضعيف وأراد أن يصفع الخواجا الذي دفعه فتعثر وسقط وأقام عثرته بعض الحاضرين وفصلوا بينهما.

يقول شوقي بدري في بقية المشهد:
كاد الأمر يمر بسلام بالرغم من الإهانة الكبيرة التي وجهت إلى كل السادة في البلدة في شخص العم خليفة إلا انه كان للعم خليفة ابن أخ ولسوء الحظ بلغه ان الخواجا قد سب عمه ووصفه بأنه عبد وضربه مستغلا ضعف جسمه حتى سقط على الأرض.ولم يكلف الشاب نفسه مئونة الذهاب للاستفسار عن عمه والسؤال عما حصل بل ذهب مباشرة الى الدكان وصرخ في وجه الخواجا:
- اذاً أنت تتطاول وتصف السادة بأنهم عبيد وتتجرأ بضربهم كذلك .سأشرب من دمك.

وينفذ الشاب تهديده العنيف فيذبح الخواجا ذبح الشاة ويمشى إلى المشنقة متبخترا طالبا من عشيرته ان يعرضوا شواهد ثباته على جمهور الشنق في رسالة دامية من وراء القبر تتمثل بعرض مخلفاته النظيفة بعد سقوطه في قاع المشنقة.

انه تصوير درامي لحالة حقيقية سائدة بين السودانيين.وقد تكون حالة متطرفة ولكنها ممكنة الحدوث وأجد في تصوير شوقي البليغ تعبيرا حقيقيا عن الحالة الاثنية التي كانت سائدة في الستينيات وما قبلها.
لقد ذهب الكثيرون الى التشكيك في واقعة الانتماء العربي للسودانيين على وجه الاطلاق وهو أمر لايحتمل التشكيك ولكنه يسمح بتنسيب النسب وتحديد الانصبة بالطريقة الاحصائية وهو ما قام به البريطانيون في الاحصاء السكاني الأول عام 1956 ووجدوا في نهايته ان 39 بالمائة من أهل السودان يعتبرون أنفسهم أبناء سلالات عربية. ولا يعني ذلك ان تلك النسبة من السودانيين حقيقة عربية الأصول ولكنه يعني ان 39 % من أهل السودان عرب او ابناء عرب أو يريدون ان ينسبوا انفسهم الى العرب . ولم يكن موظف الاحصاء يجادل الناس في اختياراتهم التي يعلنون عنها . واذكر ان موظفي ذلك الإحصاء دخلوا علينا فصول الدراسة وطلبوا منا تسجيل أنفسنا وقبائلنا للاحصاء ولا انسى ان زميلا لنا من اهل السمرة الرقيقة واللسان الفصيح وقف امامنا واعلن لموظف الاحصاء انه ينتمي الى قبيلة الدينكا.وحين ناقشناه في ذلك اقنعنا بالدليل القاطع انه فعلا من قبيلة الدينكا فقد كان اجداده من مشاهير المشاركين في ثورة 1924 وثابت انهم ينتمون الى تلك القبيلة.
اذا كان السودانيون يخترعون أنسابهم اختراعا فانهم ليسوا اول من يقدم ذلك النوع من الادعاء فقد سبقهم الى ذلك اقوام واقوام. ويقول بربر المغرب انهم من اصول حميرية هاجروا الى المغرب وعند البعثة النبوية بعثوا وفودهم الى الرسول الكريم ليبايعوه ويصبحوا من بين صحابته الأوائل. وتحت ذلك الاعتقاد قدم البربر خدماتهم الجليلة للدين الاسلامي حيث عبروا به المضيق أول مرة الى الجزيرة الايبيرية وعادوا وعبروا المضيق مع الموحدين والمرابطين لينقذوا الاندلس الاسلامية ويطيلوا عمرها الى قريب من ثمانية قرون.

ولكنه مستحيل عقلا ان تكون كل انساب السودانيين مختلقة اختلاقا فهنالك نواة صلبة من الحقائق الإثنية هي التي حفزت الآخرين للاقتداء بها في وضع انساب مزيفة تماهيا بالآخرين.ومن السيناريوهات الممكنة الحدوث ان يكون السودان قد لعب دور الملاذ الأخير للعرب الهاربين من وجه السلطان والمطلوبين واصحاب الثارات والمهدرة دماؤهم لأي سبب من الأسباب.وقد يكون ذلك سببا في وجود هذه العائلات والقبائل والأفخاذ التي ترتفع بأنسابها الى علياء الانساب العربية الشريفة مثل كبار الصحابة واهل البيت النبوي والمنسوبين الى دوحتهم كالعباسيين وانصار المدينة. وهنالك من يغالط في ذلك باعتبار انه ليس هنالك ما يحمل تلك القبائل النبيلة على الهجرة الى بوادي السودان ولكن ذلك ليس صحيحا لكونه يتجاهل احتمالات الاضطرار والامعان في الهرب من سلطان جائر او جريرة فعل قام به ذلك الهارب المطلوب. ومعروف في التاريخ العربي ما اضطرت اليه سلالات الدوحة العلوية من الهرب والتخفي والتبعثر في المنافي وقصي الملاذات. ففي صدر العصر العباسي هرب احد ابناء الدوحة العلوية الى المغرب ليقيم فيها دولة الادارسة ومع بعد الدار وشط المزار امتدت اليه يد الخليفة العباسي هارون الرشيد ودست له السم في محاولة اغتيال. والواقع ان المنتسبين الى النبلاء العرب موجودون في كل بقاع العالم الاسلامي خارج الرقعة العربية كما هو الحال في باكستان وافغانستان وايران. ومن المشاهد في مثل تلك الاحوال ان يحافظ النسل على الأصل ضاربا عرض الحائط بما اصابه من تغيرات الاهاب واللسان فتجد قرشيا باكستانيا اوعلويا ايرانيا لايتحدث العربية وتجد شريفا حسينيا او حسينيا اسود الاهاب أو أسمره . وليس ذلك امرا جديدا غير مسبوق فهنالك شواهد مماثلة في التاريخ منها ما رواه ابن شداد كبير قضاة صلاح الدين الايوبي ورفيق غزواته ومترجم سيرته في السفر الرائع الذي يحمل عنوان سيرة ابن شداد.ومعروف عن صلاح الدين انه كان كرديا سنيا عباسي الهوى وبعد ان قضى على الدولة الفاطمية (الشيعية) في مصر والشام استدعى خليفة من سلالة العباسيين ليصبح خليفة على مصر. ويروي ابن شداد تفاصيل الاستقبال الباهر الذي أعد للخليفة العباسي وخروج مصر كلها لذلك لتجد ان الخليفة المرتقب رجل أسود اللون.

هل يظل ذلك الخليفة عربيا من بني هاشم ام يتغير انتماؤه ويتحول الى اثنية مغايرة؟ وكان الامام المهدي منسوبا الى دوحة الحسن بن على عليهما السلام فهل يحول سواد بشرته دون ذلك الانتماء؟ والمراغنة ينتمون الى دوحة الحسين بن على عليهما السلام وهم على ما نرى من سمرة البشرة وخضرتها فهل يحرمهم ذلك من نسبهم الشريف؟.

هنالك من السودانيين المعاصرين من يقف عند حدود الاهاب فمتى وجده مخالفا للاهاب االعربي تنازل عن دعواه واكتفى بنسبة نفسه الى السودان او لأفريقيا وهنالك من يتخذ الموقف النقيض مؤكدا ان عروبة فاغمة تختبيء تحت اهابه الأسود وفي تلافيف عقله وداخل وجدانه ولم لا؟.

هنالك قول مأثور يقول ان الناس مؤتمنون على أنسابهم وهو ما يطابق عنصر الاختيار الذي تنطوي عليه مسألة الهوية في كثير من الظروف فداخل شروط معينة يمكن للانسان ان يختار هويته وليس من حقنا ان نغالطه في خياره ومع ذلك فهنالك حد أدنى يعرفه الناس ويحسونه ليصدقوا ذلك الخيار. وفي الحالة السودانية ليست العبرة باللون واللسان وانما الرغبة الصادقة في الانتماء فهنالك سودانيون يختارون أنفسهم عربا وآخرون يختارون انفسهم افارقة وهنالك كتلة ضخمة من الذين يرون ان كلمة سوداني تعريف تام بالهوية وإشارة الى مرجعية ثقافية تعرف نفسها بنفسها والى هذه الكتلة ينتمي تيار الغابة والصحراء مؤمنا ان شعوب السودان واقوامه قد تضافرت على صنع ثقافة سودانية مميزة لها ذوقها الخاص في الملبس والمشرب والمطعم ولها فنونها ووجوهها الثقافية الكثار وبمقدورها ان تباري اي ثقافة من الثقافات فتثبت تميزها وقدرتها على التفرد والابداع.

عرب متأفرقة أم أفارقة مستعربون؟
إنني أحاول أن أثبت هنا شعور الانتماء العربي الذي يسود بين السودانيين. ورغم ما يتعرض له من نقض وانتقاص فانه يظل قويا في النفوس وكل ما نريده هو أن يسودهم شعور مماثل بكونهم أناسا سود الاهاب وذلك ما ينسبهم إلى لحمة السواد التي تجمع سود أفريقيا بسود أمريكا واستراليا وبالجيوب السوداء في إيران والهند وهي نسبة مرئية مؤكدة لا مهرب منها ولا مناص.وقد رأينا في الغابة والصحراء طريقة نبيلة لمواجهة هاتين الحقيقتين: حقيقة العروبة والأفريقية.
ومع ذلك فقد كان هنالك انتقاد للافرو- عروبية يركز على أنها شأن يخص شمال السودان ويستثني جنوبه ولا بأس من الاعتراف بذلك فليس في الدنيا بلد متجانس في كل شيء ولا بأس أن يكون الجنوبيون أفارقة اقحاحا يعايشون أفارقة عربا في وطن واحد على أساس المواطنة والتساوي في الحقوق والاعتراف المتبادل بالتمايز الثقافي الذي ينشأ عنه الثراء والتنوع وتعدد المواهب الوطنية..
عرب متأفرقة أم أفارقة مستعربون؟
لقد لاحظنا منذ أربعين عاما ان هذا السؤال ليس مقابلة بين حدين تقتضي صحة احدهما خطأ الآخر اي انهما يتبادلان الاقصاء والاستبعاد فواقع الحال ان عرب السودان الاوائل تعرضوا للأفرقة ليس فقط في طريقة العيش ومرتكزات الحضارة بل ايضا في الانتماء العرقي وما ينتج عن ذلك من السحن والسيماء.ولا يتعارض ذلك مع وجود افارقة مستعربين بل هو منطقيا يستدعيه مؤكدا وجود وجهين للعملة. ولكن العلاقة بين هذين الوضعين ليست تجاورا سلبيا أو ما يسميه الغربيون (جوكستابوز) وانما هو عمل من أعمال التفاعل المستمر بين الفريقين فمن عام الى عام تنعقد الوف الزيجات وتخرج القصائد والاغاني والرقصات وتتخلق اللوحات والتماثيل ويجدد الناس مفردات الكلام وتفسير الدين ومن كل ذلك تولد وتتجدد ثقافة سودانية وامة سودانية تزداد تلاحما مع الايام وتزداد احتراما لمكوناتها الأصيلة.

محمد المكي ابراهيم



عجب الفيا غير متصل   رد مع اقتباس