ليلة دافئة ..ليوم بارد ..في مدينة غريبة .
ليلة دافئة ..ليوم بارد.. في مدينة غريبة
تركض ...تركض ...تركض
يظل حزن شفيف محاط بخيوط خوف متينة هادئة.
تجلس هادئة وهي تركض .
يركض الحزن أيضاً في داخلها ولكن بهدوء أكثر خوفاً .
صدفه . . تتوقف لتتناول فنجان القهوة الساخنة جداً .
وبدون سكر . ترتفع بعض الرغوة في رأسه .. لتتفرغ داخل دوائر وهمية داخل الفنجان وتغوص في داخله وتتشكل تحسها ولا تراها .
تقترب شفتاها فتنزلق إلى رئتيها .
أنه أكتشاف غريب ... ولكنه لذيذ .. حاولت مرة أخرى أن ترشف رشفه أخرى علها تفتح رئتيها ، تتورط هذه المرة فالقهوة لسعت قلبها هذه المرة ...
أرجعت الفنجان بسرعة إلى الطاولة لتتأكد من عدم سخونتها ، تكتشف أن القهوة ليست بهذه السخونة والجو بارد جداً .
ما زال أثر القهوة يلسعها بشدة في قلبها .
أراحت الفنجان نهائياً في الطاولة واكتفت بلسعة في قلبها .
وتذكرت .
تذكرت صديقها الشاعر الذي حلم ... حلم بمدينته ، حلم بها حتى تدفق حلمه داخل صدور الأصدقاء وخارج المدينة ، وعندما استيقظ وجد أن حلمه أكبر من ساحل مدينته .. فخرج بعد أن ملك أصدقاءه الحلم .
ليت السعادة علبة كبريت ، ليت السعادة علبة كبريت لكنت أعطيتها لك قبل أن تنام وذهبت.
أهـ يا صديقي لكم جمعتنا الغربة في فنجان قهوتنا فهل نفقد تلك اللحظات التي حلمنا بها بعد أن عدنا ولم تعد من الغربة ، سألها .
لماذا خرجت من هناك أن كنت تشعرين بكل هذه الغربة هنا .
هي ( هناك ضاقت المدينة بغربتي فخرجت منها لكني وجدت غربتي ساحلاً ممتداًَ فيه ملايين السائحيين من أعرفه ومن لا أعرفه حتى أصبحت فيضان يجتاح العالم ، هل تعلم أني أحس في لحظة ما ، سيكون هنالك شكل مائي للحدود في داخلنا بعد أن فقدنا كل الحدود حولنا ، أنها الشطرنج حياتنا بعد أن فقدنا كل الحدود حولنا ، نمارسه بوعي وبدون وعي سوى " كش ملك".
هو- أنت أي دور تلعبين .
هي : أنا لا العب أو بالأصح دوري في اللعبة فقط أستطيع تصوير من يلعبون حولي .
هو : تحتاجين لكثير من الصنعة لكي تصورى ما يدور من حولك بوضوح .
هي : بل أحتاج إلى عقل رائع أعشقه لكي أعي معه الصواب .
هو : ولكم أنت مربكة .
هي : أهـ .. أن ما يربكني بعدي عن أمي وأبي وأخوتي رائحة منزلنا يربكني شوقي لهم .. لها ..لنا .
هي : أيعقل أن أجد هذا الدفء الهائل في هذا الرجل .
هو : لم تزكمني هذه المرأة برائحتها .. أهي الأنثي فيها أم أنوثة مدينتي فيها .
هي : ياربي لقد رفضتني تلك المدينة بتفاصيلها لماذا يدخلني هو في تفاصيلها ؟ .
هو : أعتقد أنك متورط في داخلك .
هي : كما أعتقد أنك متورط بالإلفة خارج وطنك وداخل صدور الأصدقاء .
هو : الأصدقاء .
هي: نعم الأصدقاء هم ما تبقي لنا على ضفاف المدن الحزينة إني دوماً أبحث عنهم في داخلي .. ذكرياتي .. أوراقي ، أحرفي ، كل شيء كل شيء .
هو : أهـ لنا الأصداء
وسقطت .
سقطت بهدوء ثقيل على خدها الأيمن .
فأحسها تلسعه في داخله عندها أدرك أن غربتها تمددت أعترته رجفة من برودة الجو ، تذكر أنه لم يتعاطي هذا اليوم أي نوع من أنواع الخمور أحتراماً لوجودها معه.
تمنى هذه اللحظة أو أنه أحتسى قليلاً من البيرة فمنذ قدومه إلى هذه البلاد وهو يقاوم برودتها بجنها الساخن أرعبته هذه المرأة ذات الاسئلة الحارقة مثل مدينته ، تذكرها ، تذكرها ، ملياً في داخله .
في ذلك الفناء الواسع ، الواسع جداً بكل ما هو دافئ جدتي ، أخوتي ، تلك الأم الحانية وذلك الأب الصبور عل بعد أبنائه ، تلك العمة التي خرج كل ابنائها ولم تجد من يؤنس وحدتها سوى ( غنيماتها ) والآن تربكني هذه الفتاة ، تختلط رائحة أنوثتها برائحة مدينتي فيها .
أحس بشوارع مدينتي الآن تتقاطع فيني .
أهـ الآن أرعبتها الفكرة .
فكرة كونها مع رجل غريب لا تجمعهم أي علاقة فقط كان قاب قوسين أو أدني ، من حدودها وكانت حدوده
حزين من آخر الحزينين شممت فيه رائحة ذلك الوطن الضامر وضامراً من شدة شقه لتلك البلاد .
ذلك الشوق الذي يجعله يدنو إلى ساحلي وغربتي المتوترة أدق بابه .
كانت ليلة دافئة ... افترش ألمه وشوقه لبلاده لحاف وتمدد عليه وجعلها تتمتدد على بساط غربتها ضامة أرجلها إلى قلبها وتتحسس ضرباته المتوترة والتي لا تدري هل تعلن عن خوف الأنثي في داخلها أم الغربة .
خائفة أنا ، خائفة جداً ، أحس بالخوف عميقاً في داخلي لأول مرة أحس بغربتي تصبح خوفاً يخنقني .
للغربة هنا لون ، أشياء لا نحبها ، لا ننتمي إليها ، نمارسها نعيشها ، وتصبح تفاصيل حياتنا سيرك متحرك .
حتى الوطن تصبح فكرته في داخلنا مربوطة بالمواجهة والشجاعة وأشياء كثيرة لا نقدر على ذكرها ، نصبح جبناء .
جبناء ، يرعبنا كمواجهة مع النفس ونمتلئ خجلاً من ذكر ذلك داخلنا .
هي لحظة ، تلك التي نقرر فيها رجوعنا ، أنها تشبه لحظة الولادة أو الموت أو الغفوة التي تنتابنا بعد يوم شاق ، شاق للغاية ، قليلون هم من يدركون تلك اللحظة بإرادتهم ، وأكثرهم تفاجئهم في طريق ما ، بعد خروجنا تنطلي نفوسنا بمرارة غريبة ، بخوف خفي ، بحزن ساكن يصبح الرجوع مقدار تساؤل داخلنا ، دوماً .. دوماً ، نتمني أن تفاجئنا الظروف خوفاً من حدة القرار وقسوته .
تمر الدقائق هنا الساعات ، الأيام بصورة أسطورية ومخيفة ، نتعلم هنا عد الثواني ، حركتها القاتلة فالمدينة باردة ، باردة جداً ، تفاجئني هنا صورة اصدقائي ، احاديثنا ، ضحكاتنا ، تلك الأيام الصعبة ، رائحة الشوارع المليئة بمياه الأمطار ، الاحتفالات الصغيرة والكبيرة .
هي : آه نحلم بليلة دافئة مثل هذه، هنالك يجعلنا لا نحس بتميز لياليه ؟ .
هو : كل ما هناك دافئ ولا نذكره إلا عند فقده .
هي : (آه ، لقد أصبح داخلي مثل كعكة العيد التي أستوطن نمل السكر فيها ).
هو : أتخافي الوحدة والغربة لهذه الدرجة ؟
هي : أخاف ضياع ملامح البلد في داخلي .
هو : قولي كيف تعانين من الوحدة والغربة هنا وهي مسبقاً موروثة داخلك ؟
هي : لأنها حقاً كانت إرث وليس واقعاً عشته أنا .
هو : ألا ترين أن ذاتيتك تضخم حجم غربتك ؟
هي : وحجم محبتي للآخرين أيضاً .
هو : ماذا يشدك إلى هناك وليس لك ملامح واضحة هنالك ؟
هي : ضياع الملامح لا يعني ضياع الجمال أو القبح حتى .
هو : قلقة أنت .
هوي : وعاشقة .
هو : باستغراب ... عاشقة ؟ .
هي : نعم أيدهشك أن تعلن امرأة عشقها لبلد حتى ولو ضاعت ملامحها فيه .
هو : ما يدهشني حقاً تورطك الدائم في العشق من طرف واحد .
هي : هكذا دائماً أنوثتي تتحداني وتعلن عشقها .
هو : أحس بك مرهقة من الداخل .. تتسرب أنثاك إلى داخلك دوماً رغم تمردها الظاهري .
هي : ليس الأنثي ما تتسرب فقط ، بل هي نفسى أيضاً ، أحسها تهرب منى هنا كل ليلة أحسها تجزع منى كل لحظة أكثر من قبلها .
الآن ...
أمارس احتضاري بشكل هادئ رغم ألمه .
تحتضر الأشياء من حولي أولاً ، الغرفة ، الضوء الذي يدخل شباكها ، الهواء المنبعث من فتحات التكييف ، الستائر التي لا تتوقف عن التمايل ، صوت العربات القادم من بلكونة الغرفة ، عمال النظافة عند الرابعة صباحاً ، وهم يجرون عربات النظافة ببطء والشمس وهي منكسرة على الشاطئ والضباب على شباك الغرفة وهو يوحي برائحة الموتي .
أستحضر رسائل الأصدقاء ، أقرؤها ، أحفظها ، لماذا لا يكتبون أكثر ، وأكثر وهل كنت أحبهم إلى هذه الدرجة ؟
هل كنت أحبه إلى هذه الدرجة ؟ دوماً تخيلت أني غريبة عنهم، عن تفاصيلهم لم أدرك حجم تورطي بعشقه إلى هذا الحد .. لم أدرك ... ولم أراها واضحة وجميلة أمامي أكثر من الآن .
قال لها :
" طائرتك ستقلع بعد دقائق " .
قالت له :
" لقد اقلعت طائرتي "
" أبتسم لها بصمت حزين وودعها"
أزاحت يدها من يده وتحسست فنجانها وشربته لكم بارد ، بارد ، بارد .
1995...
|